تنظر الحكومة المصرية إلى المجتمعات العمرانية الجديدة على أنها الحل الناجع لكل مشاكل مصر العمرانية. ومنذ أن خُطِطَ لإنشائها في السبعينيات من القرن الماضي، بهدف توزيع النمو العمراني بشكل أكثر توازنًا عبر الأراضي الصحراوية الشاسعة في مصر، توالى ظهور هذه المجتمعات المخططة من قبل الدولة واحدة تلو الأخرى في جميع أنحاء الجمهورية.
سيطرت على الواقع المصري في هذا الصدد ثلاث سياسات رئيسية : أولها هو أن قطاعات العقارات والإنشاءات سوف تؤدى لتحفيز النمو الاقتصادى، وثانيها هو أن مبيعات الأراضي سوف تسد عجز الميزانية، وثالثها هو أن المساكن الجديدة سوف تحل أزمة الإسكان. وتمثل المشروع الذي تطرحه تلك السياسات الثلاث في إقامة مدن جديدة فى الصحراء. فى تلك الأثناء، لم يقم أحد بتقييم تلك الاختيارات والسياسات المؤسسية المرتبطة بإدارة الأراضى والعقارات وبناء المساكن والنظر فى مدى فعاليتها وكفاءتها.
والآن تعتزم الهيئة الحكومية المسؤولة عن المدن الجديدة – هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة (هيئة المجتمعات اختصارًا) – استثمار مليارات الجنيهات فى العاصمة الإدارية الجديدة، بينما تستمر فى استثمار مليارات الجنيهات فى المدن الجديدة فى مختلف أنحاء البلاد. ولذا فإن طرح الأسئلة حول النفع الحقيقي لتلك المدينة الجديدة هو مهمة ملحة وعاجلة. ففي الوقت الذى يتم فيه إنفاق المليارات فى المدن الجديدة، تستمر المدن الأقدم في معانتها من نقص الموارد العامة وتدهور الخدمات بها. مما يزيد من معدلات غياب المساواة بين المدن القائمة والتى يسكنها الملايين من البشر، وبين تلك المناطق العمرانية الجديدة والتى توصف أحيانًا فى الصحافة بأنها “مدن أشباح” (ديلى نيوز مصر، 2012).1 وبالرغم من كل المدن الجديدة التى تم بناؤها (اعتبارا من 1977) وكان من المفترض أن تقدم إسكانًا اقتصاديًا لمحدودي الدخل، فإن المناطق غير الرسمية فى المناطق الحضرية الأقدم قد استمرت فى النمو نظرًا لأن الفقراء يرون أنها أنسب لاحتياجاتهم من الرحيل إلى المجتمعات العمرانية الجديدة فى الصحراء.
تسعى هذه الورقة إلى الإجابة على التساؤلات المطروحة بشأن نجاح المدن الجديدة فى تحقيق أهدافها وبشأن فائدتها المفترضة للبلاد ككل. لذا فإنه من المهم ان نقوم بتحليل التكاليف والفوائد المرتبطة بالاستمرار فى التوسع فى المدن الجديدة، والنظر فى امكانية أن تؤدى تلك السياسات إلى زيادة العبء على المدن والمناطق الحضرية الحالية بدون أن تخدم سوى نسبة ضئيلة من السكان. تبدأ الورقة الحالية باستعراض تاريخ المدن الجديدة كفكرة وأيضا كسياسة قومية. وبعدها تقوم الورقة ببحث أهداف سياسة المدن الجديدة ومقارنتها بأداء تلك المدن منذ إنشائها. وأخيرًا تقدم تحليلًا لعيوب تلك السياسة وتفند بعض الأوهام الشائعة عن مساهمة “هيئة المجتمعات” فى حل مشاكل الأمة المصرية.
بدأ طرح فكرة بناء “مدن تابعة فى الصحراء” منذ خمسينات القرن الماضى (وردت الفكرة فى الخطة الرئيسية للقاهرة عام 1956 والتى لم يتم اعتمادها، ثم فى الخطة الرئيسية 1970 والتى تم اعتمادها)، ولكن الدفعة القوية تجاه الصحراء حدثت بعد حرب 1973 وبدء سياسات “الانفتاح” (القاضى، 1992). وقد تحدثت “ورقة أكتوبر” التى طرحها السادات عام 1974، عن تنمية “الفراغات الاستراتيجية” فى مصر بهدف رسم خريطة جديدة لمصر (سيمز، 2014). وأكدت ورقة 1974 على الهدف الاجتماعى من الامتداد إلى الصحراء، وبرغم ذلك فإن “هيئة المجتمعات” تجاهلت هذا الدور الاجتماعى بشكل منهجى وفضلت بدلًا منه أن تلعب دور المستثمر العقارى.
بدأ التخطيط للمدن الجديدة بعد ذلك بوقت قصير، وبحلول 1977 كانت عملية إنشاء مدينة العاشر من رمضان – وهى أول مدينة توصف بأنها من المجتمعات العمرانية الجديدة فى مصر – قد دخلت حيز التنفيذ. وكان من المقرر أن تتمتع تلك المدينة بقاعدة اقتصادية مستقلة تعتمد على المنشئات الصناعية والإسكان الذى تقيمه الحكومة وأيضا الأراضى المدعومة. كان الهدف المبدئى هو أن يسكن تلك المدينة 500.000 نسمة – معظمهم من العمال – الذين سوف تجتذبهم فرص العمل بالصناعات (سيمز، 2014).
بعدها أصبح إنشاء تلك المدن الجديدة جزءًا لا يتجزأ من السياسة القومية، وتم إنشاء “هيئة المجتمعات” فى 1979 بمقتضى قانون 59/1979 لتصبح السلطة الحكومية الرسمية التى تتولى تنمية تلك المدن. ما بين 1977 و1982 تم تخطيط سبع مدن جديدة، تم اعتبارها “الجيل الأول” من المدن الجديدة، وتكونت بشكل أساسي من مدن منفصلة لها قواعدها الاقتصادية المستقلة.2 الاستثناء الوحيد لتلك القاعدة كان هو مدينة 15 مايو. على عكس المدن الجديدة الأخرى، فإن مدينة 15 مايو لم تنشأ لها قاعدة اقتصادية مستقلة، ولكنها كانت مصممة كمدينة تابعة تقع مباشرة خلف نهاية الحدود العمرانية الطبيعية لامتداد مدينة القاهرة. وقد بنت الحكومة قدرًا كبيرًا من عمارات الإسكان الاجتماعى من أجل مساعدة المدينة الجديدة على استيعاب النمو السكانى فى القاهرة.
وفى 1982، قامت منظمة فرنسية هى “معهد إدارة العمران فى إقليم إيل دو فرانس” (المعهد الفرنسى اختصارًا) بتقديم دراسة بناء على طلب “الهيئة العامة للتخطيط العمرانى” (هيئة التخطيط اختصارًا) لدعم تطوير مخطط عام جديد للقاهرة، كما قدمت “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية” (الوكالة الأمريكية اختصارًا) دراسة عن “السياسة الحضرية القومية” فى نفس العام. اقترحت دراسة “الوكالة الأمريكية” أن يتم تحويل الموارد تجاه تحسين أوضاع التجمعات العمرانية القائمة – بالذات فى إقليم الصعيد وإقليم قناة السويس – وهى توصية سددت ضربة غير مباشرة للسياسة الرسمية للمدن الجديدة (سيمز، 2014). أما دراسة “المعهد الفرنسى” فقد انتقدت السياسة الرسمية بشكل مباشر واقترحت، بدلًا من إنشاء مدن جديدة مستقلة، أن يتم توجيه الموارد القومية إلى إقامة مدن تابعة حول المدن القائمة بالفعل لكى تستوعب النمو السكان المتزايد، مع استمرار السكان فى الاستفادة من المزايا الاقتصادية للمدن القائمة.
مع أن دراسة “الوكالة الأمريكية” لم تحظ برضاء الحكومة المصرية (سيمز، 2014)، فإن دراسة “المعهد الفرنسى” والمقترحات التى وردت بها حازت على موافقة رسمية فى 1983 من الرئيس المصرى وقتها، “حسنى مبارك”.3 وهكذا بدأت الدولة، على غرار مدينة 15 مايو، فى طرح سلسلة شملت تسع مدن هى “مدن الجيل الثانى” فى 1986، والتى كانت كلها تقريبا مدنًا تابعة و”مدنًا توأمية” صممت لتكون مدنًا شقيقة أو توأمية لمدن الأقاليم.4 وفى 2000، تم البدء فى سبع مدن من “الجيل الثالث” التي كانت جميعها مدنًا إقليمية توأمية.5 وحاليًا توجد 23 من مجتمعات عمرانية جديدة فى مختلف أنحاء مصر ،وهناك خمس مجتمعات تحت التنفيذ، وهو ما يصل بالمجموع إلى 28.
فى 2008، قامت “وكالة اليابان للتعاون الدولى” (الوكالة اليابانية اختصارًا) بنشر “دراسة المخططات الاستراتيجية للتنمية العمرانية من أجل تنمية مستدامة لإقليم القاهرة الكبرى“. تلك الدراسة رسمت الخطوط العامة لثلاثة سيناريوهات ممكنة للنمو المستقبلى لإقليم القاهرة الكبرى وأعلنت أن السيناريو الثالث هو “أفضل نموذج للنمو المستقبلى”. السيناريو المذكور يقوم على كبح جماح النمو السكاني والتوسع الحضري المستقبلي وتوجيه السكان تجاه المناطق العمرانية الجديدة على أطراف القاهرة. وهكذا فإن تلك الدراسة أعطت دفعة للسياسات القائمة بالفعل بشأن التنمية المخططة للمدن الجديدة في مصر. وهناك حاليًا ثماني مدن تقع داخل حيز إقليم القاهرة الكبرى، وهى مدن 6 أكتوبر و10 رمضان و15 مايو والعبور والشيخ زايد والشروق والقاهرة الجديدة. وأضيفت للقائمة مؤخرًا “العاصمة الإدارية الجديدة لمصر”، التي تعد بدورها إحدى المجتمعات العمرانية الجديدة تحت الإنشاء.
يذكر القانون الذى أنشأ “هيئة المجتمعات” أن الهدف منها هو خلق مراكز “حضارية” جديدة، وإعادة توزيع السكان بعيدًا عن الشريط الضيق لوادى النيل، وإقامة مناطق جذب مستحدثة خارج نطاق المدن والقرى القائمة، ومد محاور العمران الى الصحراء و المناطق النائية، والحد من الزحف العمراني على الاراضي الزراعية. وهو ما يعنى أن مبرر وجود وبقاء “هيئة المجتمعات” هو جذب السكان إلى تلك المدن الجديدة.
الهدف الثانوى للمجتمعات العمرانية الجديدة هو توفير مأوى لمحدودي الدخل، كوسيلة لخلق بديل عن المناطق اللا-رسمية (سيمز، 2014). حيث تذكر اللوائح العقارية الداخلية في “هيئة المجتمعات” أن أحد جوانب مهمتها هو تقديم الإسكان اللائق والملائم لكل مواطن مصري. وتتضمن مهمة “هيئة المجتمعات” الوفاء باحتياجات السكن للعائلات المحدودة الدخل، والتى تقدر الهيئة عددها بحوالى 1.5 مليون وحدة (هيئة المجتمعات، 2015)، وإن لم تكن طريقة حساب هذا العدد واضحة تمامًا. علاوة على ذلك، فإن لوائح الهيئة تنص على أنه يجب على اللجنة التي تحدد سعر الشراء للأراضي أن تأخذ في اعتبارها الفوارق في مستويات الدخل عند قيامها بمهمتها. ويعلق القانوني شوقي السيد على هذا بالقول بأن القانون الصادر فى 1979 بإنشاء “هيئة المجتمعات” يذكر أن الهيئة مسؤولة عن تنفيذ المسؤوليات الاجتماعية للدولة وبالتالى يجب عليها دائما أن تفكر فى القاعدة العريضة من المحتاجين وأن تقدم اسكانًا متوسطًا واقتصاديًا لهم (السيد، 2015).
ومن المثير للانتباه أن نطاق عمل “هيئة المجتمعات” يتضمن وضع الخطط اللازمة لتطوير العشوائيات من خلال إعادة تخطيطها ومد المرافق لها وتقديم المأوى لسكان العشوائيات الذين يحتاجون إلى اعادة تسكين فى مناطق أخرى. (هيئة المجتمعات، 2015). إلى جانب هذا، فإن آخر قانون للإسكان الاجتماعي (القانون 33 لعام 2014) يذكر أن برنامج الإسكان الاجتماعي القومى يقوم على توفير وحدات سكنية لذوى الدخل المحدود فى “المناطق التى تحددها وزارة الإسكان بالمحافظات والمجتمعات العمرانية الجديدة” وأيضًا على تقديم قطع أراضي عائلية صغيرة لذوي الدخل المتوسط فى المجتمعات العمرانية الجديدة. وهكذا فإنه من الجهة النظرية، يبدو أن نطاق عمل “هيئة المجتمعات” يتضمن جزئيًا “الوظيفة الاجتماعية للملكية العمرانية”. ولكن هل وضعت الهيئة تلك الوظيفة موضع التنفيذ؟
فى الفصل التالي نناقش ما إذا كان إنشاء تلك المدن الجديدة، التي وصل عددها إلى 28، قد أسهم فى تحقيق المبادئ والأغراض التى قامت “هيئة المجتمعات” من أجلها، أم لا.
جذب السكان
إن الهدف الرئيسي “لهيئة المجتمعات” هو جذب السكان بعيدًا عن الشريط الضيق لوادي النيل وتوزيعهم بشكل أكثر توازنا فى المساحات الخالية فى مصر. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، يُحدَد لكل مجتمع عمراني جديد عددًا مستهدفًا من السكان وفترة زمنية مستهدفة لاستيعابهم.6 في نطاق إقليم القاهرة الكبرى، تتراوح الأعداد مستهدفة للسكان من جميع المجتمعات العمرانية الجديدة ما بين نصف مليون إلى ستة ملايين، بينما تقل الأعداد المستهدفة نسبيًا في معظم المجتمعات العمرانية الجديدة بالأقاليم الأخرى.
وبرغم أن الكثير من الأعداد المستهدفة مذكورة على موقع “هيئة المجتمعات”، إلا أنه لا توجد أي إشارة للفترة الزمنية المطلوبة لاستيعابهم. والجدير بالاهتمام هو أن أعداد السكان المتحققة بالفعل التي ذكرها “الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء” فى تقديرات عام 2013 تختلف كليًا عن تلك التي قدمتها “هيئة المجتمعات” في تقديراتها عام 2015. وتجدر الإشارة إلى أن تقديرات “الجهاز المركزي” مبنية على معادلات احصائية تضع في الاعتبار تعداد عام 2006 ومعدلات النمو السكانى السابقة، وبالتالى فقد تكون منخفضة عن الواقع نظرًا لأنها لا تدخل فى اعتبارها التزايد فى عدد الأسر التى انتقلت إلى المدن الجديدة في السنوات الثلاث إلى الأربع الماضية. وفى المقابل، تُدخل تقديرات “هيئة المجتمعات” في حسابها كل المنازل وقطع الأرض الخالية التى تم بيعها وإن كانت غير مأهولة، وبالتالي فإن تلك التقديرات قد تتضمن بعض المبالغة. فنظرًا لانتعاش سوق المضاربات العقارية، اشترى الكثير من المصريين قطع أراض فى المدن الجديدة واحتفظوا بها لعقود من الزمن بهدف بيعها عندما ترتفع الأسعار لتحقيق أرباح طائلة. وهناك أيضًا أسر اشترت قطع أراض لأطفالها لكى يستخدمونها بعد سنوات طويلة عندما يصلون إلى سن الزواج. وهكذا فإنه لا يصح أن يتعامل المرء مع القطع المباعة وكأنها قد زادت تلقائيًا من عدد السكان. والمرجح أن التقدير الأكثر واقعية للسكان يقع في نقطة ما بين التقديرين السابق ذكرهما.
يظهر الرسم التوضيحي أدناه 17 من المجتمعات العمرانية الجديدة (التي يتوفر للعامة بشأنها بيانات عن التعداد السكاني المستهدف والفعلي) ويتضمن مقارنة بين التعداد السكاني المستدف والتعداد الحالي وفقًا لتقديرات “هيئة المجتمعات” (2015).
كما يظهر في الرسم البياني أعلاه، حتى لو استخدمنا التقدير المبالغ فيه من “هيئة المجتمعات” فإنه ليس هناك مجتمع عمراني جديد واحد تمكن من تحقيق عدد السكان المستهدف، وأغلبية تلك المجتمعات لم تتخط حتى حد الـ 50%. وتبدو تقديرات الأداء أسوأ لو استخدمنا تقديرات “الجهاز المركزى” للسكان فى 2013. وفقا لتقديرات “الجهاز المركزى” فإن نجاح المدن الجديدة في تحقيق عدد السكان المستهدف متواضع للغاية، حيث يتراوح بين 3% فى أسوأ الأحوال إلى 27% فى أفضلها. وبالطبع فإن المرء يجب أن يأخذ في الحسبان أن الكثير من الأهداف قد تم تعديلها بالزيادة عبر السنوات. على سبيل المثال، كان عدد السكان المستهدف لمدينة 10 رمضان مبدئيا يبلغ 500,000 نسمة، ولكن “هيئة المجتمعات” زادته إلى 2.1 مليون لاحقًا. هذا الأمر يطرح تساؤلات. لو كان الهدف هو نصف مليون في 1977 ولو كانت المدينة المذكورة فشلت في تحقيق هذا الهدف حتى 2015، لماذا تمت زيادة الهدف إلى 2.1 مليون؟ في الواقع، لو فرضنا استمرار زيادة السكان بنفس المعدل الذي تم فى تلك المدينة خلال الأعوام الثمانية والثلاثين الماضية، فإن تحقيق هدف الوصول بعدد السكان إلى 2.1 مليون فى العام 2032 هو من ضروب المستحيل. ولو افترضنا أن نفس معدل الزيادة الذي ساد الفترة 1977-2015 سوف يستمر فى 2015-2032 فإن تعداد المدينة سوف يصل إلى 700,000 على الأكثر في نهاية الفترة المذكورة.
علاوة على هذا، فإن أغلب المجتمعات العمرانية الجديدة قد تم إنشاؤها كمدن تابعة أو توأمية وليس بوصفها مدنًا مستقلة بذاتها. لذا فإن سكان الكثير من المجتمعات العمرانية الجديدة ما زالوا يتنقلون يوميًا إلى المدينة الرئيسية القريبة للعمل. وفى نطاق إقليم القاهرة الكبرى مثلًا، وبرغم الزيادات السكانية التى شهدتها 6 اكتوبر والقاهرة الجديدة والشيخ زايد، فإن القاهرة نفسها لم يخف بها عبء المواصلات والازدحام اليومى، وما زالت نسبة الكثافة السكانية بها في ارتفاع (الجهاز المركزي، 2015).
وبرغم الفشل في تحقيق أي من الأهداف الخاصة بتعداد سكان هذه المدن، إلا أن الدولة قد واصلت زيادة أعداد المجتمعات العمرانية الجديدة عبر السنين، كما أنها زادت من الرقعة الجغرافية لبعض المجتمعات العمرانية الجديدة. على سبيل المثال، مدينة 15 مايو كان قد تم تصميمها فى 1978 على مساحة 6,462 فدانا، وقد تمت إضافة 3,912 فدانًا أخرى لها فى 1995 (هيئة المجتمعات، 2015). تلك التوسعات حدثت برغم أن تعداد مدينة 15 مايو، وفقًا للأعداد المبالغ بها التي أعلنتها “هيئة المجتمعات” (2015) لم يبلغ سوى 200,000 (40% من المستهدف). وبالمثل، فإن “هيئة المجتمعات” قامت بإنشاء “طيبة الجديدة” في عام 2000 على مساحة 5,445 فدانًا ثم زادت مساحتها فى 2014 بمقدار 4,050 فدانا إضافيًا برغم أن تقديرات “هيئة المجتمعات” (2015) لتعدادها الحالي هو 19,000 نسمة – أى حوالى 10% من عدد السكان المستهدف.
وفقا للقانون الذى أنشأ “هيئة المجتمعات” (1979) فإن تلك الهيئة هى المسؤولة عن بناء المدن الجديدة وتزويدها بالخدمات من قبيل المدارس والمستشفيات وربطها بشبكات المرافق. وبمجرد الانتهاء من تلك “المرافق الأساسية” فى أى من المجتمعات العمرانية الجديدة يجب على “هيئة المجتمعات” أن تقوم بإخطار مجلس الوزراء لكى يقرر توقيت تسليم المجتمع العمرانى الجديد إلى الإدارة المحلية للمحافظة التى يتبعها.7 وحتى يحدث هذا، فإن “هيئة المجتمعات” تظل مسؤولة عن تخطيط وتمويل عمليات التنمية فى كل من المدن الجديدة، وتتضمن خطتها السنوية ميزانية للمشروعات تشمل حجم الاستثمارات المخصصة لكل مجتمع عمرانى جديد فى تلك السنة المالية. ويذكر موقع “هيئة المجتمعات” كمية الأموال التي تم انفاقها على كل مجتمع عمراني جديد منذ إقامته، مقسمة إلى بنود المرافق والخدمات والإسكان. وتظهر تلك البيانات أن بعض المجتمعات العمرانية الجديدة قد نالت الحصة الأكبر من الاستثمارات، ومنها أسيوط الجديدة والمنيا الجديدة وطيبة الجديدة، والتي تعد من الخمس مجتمعات العمرانية الجديدة التى حظيت بأعلى انفاق مخصص للفرد منذ إنشائها، من حيث الانفاق على المرافق والخدمات والإسكان.
ولكن، لا يبدو أن ارتفاع معدلات الانفاق على هذه المدن مرتبط بنجاحها في جذب السكان، فبالرغم من تخصيص كل هذه الأموال لمدن أسيوط الجديدة والمنيا الجديدة وطيبة الجديدة، نجد أنها قد حققت معدلات بلغت 4% و6% و10% (بالترتيب) من التعداد السكاني المستهدف. وللإنصاف، علينا أن نأخذ فى الاعتبار حقيقة أن أسيوط الجديدة وطيبة الجديدة قد تم إنشاؤهما منذ زمن قريب نسبيًا، في عام 2000، وهو ما قد يبرر ضآلة عدد السكان الفعلي مقارنة بالعدد المستهدف. ولكن المنيا الجديدة تم إنشاؤها عام 1986 وقد حققت نسبة أقل بالنسبة لعدد السكان المستهدف مقارنة بمدينة طيبة الجديدة الأقل منها عمرًا.
على الجانب الآخر، نجد أن مدينة العبور، رغم كونها أنجح المجتمعات العمرانية الجديدة بالنسبة لتحقيق تعداد السكان المستهدف (نسبة التعداد الفعلى إلى المستهدف 92%). 8، فإنها تحتل المرتبة الثالثة عشر فى نصيب الفرد من الانفاق على الخدمات، كما تحتل المركز السابع عشر فى نصيب الفرد من الانفاق على المرافق، بالمقارنة ببقية المجتمعات العمرانية الأخرى.
يبدو النجاح فى الوصول إلى تعداد السكان المستهدف منفصلًا بنفس الدرجة عن نصيب الفرد من الإنفاق على الإسكان كذلك، وليس المرافق والخدمات فقط. على سبيل المثال فإن مدينة العبور التى تحظى بنسبة نجاح مرتفعة (92%) فى الوصول إلى تعداد السكان المستهدف تحتل المرتبة الرابعة عشرة فى نصيب الفرد من الانفاق على الإسكان، فى الوقت الذى تحتل فيه مدينة المنيا الجديدة، الأقل نجاحا (6%) فى الوصول إلى عدد السكان المستهدف، المكانة الأولى فى نصيب الفرد من الإنفاق على الإسكان. ويلاحظ أن المدينتين قد تم إنشاؤهما فى فترات متقاربة، 1982 و1986 على التوالي.
تثير هذه البيانات تساؤلات عدة. هل حاولت “هيئة المجتمعات” فهم السر فى كون بعض المجتمعات العمرانية الجديدة نجحت أكثر من غيرها في تحقيق أهدافها؟ في النهاية، إن كانت مثل هذه الدراسات قد أجريت، فإنها بالتأكيد لم تنشر أو تتاح للعامة. هل تم تقدير تعداد السكان المستهدف بشكل خاطئ فى بعض المجتمعات العمرانية الجديدة، أم أن بعض تلك المجتمعات لها جاذبية خاصة لعوامل أخرى؟ في غياب وجود علاقة طردية بين الانفاق وبين اقبال الناس على السكن فى تلك المجتمعات، هل قامت “هيئة المجتمعات” بتحليل فاعلية نفقاتها والتوزيع الجغرافي لها؟ هذه كلها أسئلة لم تقدم “هيئة المجتمعات” إجابة عليها.
كما أوضحنا سابقًا، فإن أحد الأهداف الرئيسية لإنشاء “هيئة المجتمعات” هو توفير السكن الاقتصادي للأسر محدودة ومتوسطة الدخل.
من أجل تحقيق هذا الهدف، قامت “هيئة المجتمعات” بتخصيص بعض الوحدات التي بنتها لمشروع الإسكان الاجتماعي (المخصص للعائلات محدودة الدخل والشباب) ومشروع الإسكان القومي (أحد المشروعات التي تضمنها البرنامج الرئاسي لحسنى مبارك 2005حيث شمل تقديم الإسكان للفئات المتوسطة والمحدودة الدخل) ومشروع إسكان الشباب ومشروع إسكان المستقبل للإسكان الاقتصادي ومشروع دار مصر للإسكان المتوسط.
وفقًا للبيانات المتاحة على موقع “هيئة المجتمعات” فإن تلك الهيئة قد أقامت مئات الآلاف من الوحدات السكنية وقامت بتخصيصها للمشروعات المذكورة أعلاه.
ولكن هل وصلت تلك المساكن الجديدة بالفعل للسكان محدودى الدخل الذين استهدفتهم “هيئة المجتمعات”؟ هل من الحقيقى أن تلك الوحدات هى بالفعل فى متناول أفقر الفئات؟ وهل قامت “هيئة المجتمعات” بالوفاء بهدف العدالة الاجتماعية الذى كان عليها تحقيقه؟
أوضحت الدراسات والتحليلات التي أجراها الباحث العمراني “يحيى شوكت” أن الوحدات التي يتم تخصيصها للفئات المنخفضة والمتوسطة الدخل لا تصل إلى الفقراء فى أغلب الأحيان (2014).
ورد في موقع “هيئة المجتمعات” تعريف للفئات محدودة الدخل بأنها تشمل الأسر التى يقل دخلها السنوى عن 36,000 جنيه وأيضا الأفراد الذين يقل دخلهم السنوى عن 27,000 جنيه (حوالى 3,350 دولارا). ويظهر الجدول التالي، والمنقول بتعديل عن “شوكت” (2014)، معدلات الانفاق الاستهلاكي للأسر المصرية مقسمة حسب مستوى الانفاق إلى خمس فئات كل فئة منها تمثل 20%من السكان، ثم إلى عشر شرائح كل منها تمثل 10% من السكان، بناء على البيانات المذكورة في مسح الدخل والإنفاق والاستهلاك (HEICS) لعام 2012/2013.
طبقًا لتلك البيانات، فإن الأسر التي تنفق 36,000 جنيه سنويًا تقع ضمن شريحة الأسر الـ 20% الأكثر ثراء من السكان في مصر.
إلى جانب هذا فإن قانون التمويل العقاري فى مصر، وهو الآلية التمويلية لبرنامج الإسكان التعاونى الذى يستهدف الجماعات المحدودة الدخل (السيد، 2015)، يستبعد العائلات التى يقل دخلها السنوى عن 23,000 جنيه سنويا، (عبد العظيم، 2014)، بمعنى أنه يستبعد النصف الأفقر (50%) من السكان وفقا لبيانات مسح الدخل والإنفاق والاستهلاك لعام 2012-2013.
وفي سياق مماثل فإن “هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة” قد أعلنت عن بيع آلاف من الوحدات بمساحات 100-150 مترًا مربعًا تستهدف الأسر متوسطة الدخل، من خلال مشروع دار مصر للإسكان المتوسط. ولكن لو ألقينا نظرة سريعة على أسعار تلك الوحدات والأقساط الشهرية لها سوف نرى أن تلك الوحدات هي فى متناول الشريحة العليا من الدخل فحسب. يوضح الجدول التالي نظم الأسعار والدفع.
يوضح الجدول أعلاه أن الأسر المصرية يجب أن تدفع أقساطًا شهرية تزيد عن 3500 جنيه. ولكن مسح الدخل والإنفاق والاستهلاك يفيد بأن تلك الأسر التى تنفق أكثر من 2387 جنيها شهريا تنتمى فى الواقع إلى شريحة الـ20% الأكثر ثراء فى مصر.
هناك أمر آخر لا يقل فى أهميته عن أعداد الوحدات التى تبنى ومدى تناسبها مع دخول الشرائح الأفقر من السكان، وهو موقع تلك الوحدات الجديدة. نظرًا لأن المدن الجديدة تقع على أطراف المدن القائمة فهي بطبيعتها غير ملائمة لمن يضطرون إلى التنقل من وإلى المدينة القائمة للعمل. أغلب المجتمعات العمرانية الجديدة تم أنشاؤها كمدن تابعة وهى بالتالى تعتمد على المدن القائمة فى توفير فرص العمل، وهو ما يعنى احتياج معظم السكان للانتقال بشكل يومى. من جهة أخرى، لا يتصل أي من المجتمعات العمرانية الجديدة بشكل جيد وفعال بشبكة المواصلات العامة وهو ما يعنى أنه ليس أمام السكان سوى اقتناء سيارات أو استخدام وسائل المواصلات الخاصة للتنقل. وهو أمر يكفى لجعل المجتمعات العمرانية الجديدة غير جذابة لأولئك الذين لا يقدرون على شراء سيارات، وهم أغلب الفئات المحدودة الدخل.
إلى جانب هذا، فإن المساحات المخصصة للإسكان الاقتصادى تقع فى الكثير من الأحيان على أطراف المجتمعات العمرانية الجديدة وتعانى بالتالى من نقص أكبر فى الخدمات. على سبيل المثال، يظهر الفيلم التسجيلي “عمران الحكومة، المدن الجديدة” (مدونة “وزارة الإسكان الظل”،2013)، كيف أن المشاركين فى أحد مشاريع “ابنى بيتك” لم يتمكنوا من استخدام منازلهم الجديدة بسبب موقعها فى منطقة تخلو من الخدمات. وقال أحدهم أن انعدام الخدمات بالكامل يجعل المنطقة غير آمنة غير قابلة للمعيشة. وبالمثل، فإن نظام “الأولى بالرعاية” فى مدينة 6 اكتوبر – والمعروف أيضا باسم “مساكن عثمان” – والمخصص لسكنى الفئات الأكثر فقرا يقع إلى جنوب طريق الواحات السريع بينما تقع كل الخدمات إلى الشمال من هذا الطريق، كما توضح الخريطة المنشورة أدناه.
ما رصدناه في “تضامن” يؤكد أن الكثير من السكان الذين تولى “صندوق تطوير المناطق العشوائية” نقلهم إلى تلك المناطق على أساس أن مساكنهم القديمة “غير آمنة” انتهى بهم الحال إلى العودة إلى أحيائهم الأصلية برغم أن مساكنهم أزيلت بالفعل. وبرغم كل الصعوبات التى واجهتهم فى الحصول على سكن جديد فإنهم فضلوا الإقامة فى مناطقهم القديمة على الحياة فى مجتمعات عمرانية جديدة تفتقر إلى لوازم المعيشة.
لا يعنى هذا أن مدينة 6 اكتوبر بأكملها تفتقر إلى الخدمات، ولكن الخدمات الموجودة بها تفتقر لحسن التوزيع المكانى. مثلًا، المدينة التى يعيش بها 1.5 مليون شخص تضم 40 مدرسة (هيئة المجتمعات، 2015)، ولكن كل تلك المدارس تقع على الجانب الآخر من الطريق السريع، وهو ما يعنى أن أطفال “مساكن عثمان” عليهم أن يعبروا هذا الطريق على الأقدام كل يوم (تضامن، 2015).
بسبب الكثر من تلك العناصر المذكورة أعلاه، وأيضا بسبب أمور أخرى منها ارتفاع تكاليف المعيشة ونقص المواصلات العامة والخدمات، فإن أغلب مشروعات الإسكان المدعومة من الدولة تعانى من ارتفاع نسبة الوحدات غير المأهولة. فنجد مثلًا دراسة تنتهي إلى أن نسبة الإشغال في أحد مشروعات الإسكان القومي لا تتعدى الـ 50% (أبو المجد، 2011). وللأسف فإن آخر البيانات المتاحة حول معدلات الإشغال تعود إلى آخر تعداد قومي في عام 2006، وهي بالتالي لا تعكس الواقع الموجود اليوم. بينما تفيد مقالة صحفية حديثة بأن نسبة الإشغال فى معظم المدن الجديدة لا تتخطى 2%، برغم أنه ليس من الواضح كيف توصل الكاتب إلى هذه النسبة (يحيى، 2015).
الاعتماد على مبيعات الأراضى تخلق اقتصادًا قوميًا غير صحي
على مدى العقود الماضية اعتمدت السياسة القومية فى مصر، كما ذكرنا، على قطاعات العقارات والإسكان كمحرك لنمو الناتج القومى المحلي.
وفقًا للبنك المركزي المصري، فإن معدل النمو فى قطاع التشييد والبناء ارتفع من 0.7 % في 1991/1992 إلى 11.2% في 1997/1998، كما زاد معدل النمو فى قطاع العقارات فى مصر من 1% في 1991/1992 إلى 6.2% في 1997/1998. ولكن هذا أدى إلى تكون “فقاعة اقتصادية” انفجرت فى 2001/2002 لأسباب يعود بعضها إلى الكساد العالمى فى أوائل العقد الأول من القرن الحالى. وهكذا فإن معدل النمو فى قطاع التشييد والبناء قد انخفض إلى -4.8% في 2002/2003، بينما هبط معدل النمو فى القطاع العقارى إلى 0.1% فى العام ذاته.
وخلال الفترة ما بين أوائل التسعينات وأوائل العقد الأول من القرن الحالي، استمرت المناطق اللا-رسمية في مصر في النمو برغم الطفرة التى حدثت فى أسواق التشييد والبناء والعقارات وبرغم الإجراءات القسرية التى اتخذتها الحكومة للحد من النمو العمرانى غير المخطط. وهو أمر يوضح مدى عجز السياسة الحالية عن حل مشاكل الفئات الأقل دخلًا.
برغم انفجار “فقاعة العقارات” وانخفاض معدل النمو فى القطاع، حاولت الحكومة مرة أخرى تحفيز النمو الاقتصادى من خلال قطاعات التشييد والعقارات. وهكذا فإنه فى عام 2007/2008، وفقًا لبيانات البنك المركزي، أسهم النمو في قطاعات التشييد والعقارات بنصيب ملحوظ فى النمو الاقتصادي القومي. كما وصل معدل النمو الحقيقي فى قطاع التشييد والبناء إلى 15% فى 2007/2008 قبل أن يهبط إلى 5.9% فى 2012/2013. فى المقابل، ارتفع معدل نمو القطاع العقاري إلى 3.7% فى 2007/2008 ثم زاد إلى 5.6% فى 2012/2013.
برغم تذبذب النمو فى قطاعات التشييد والبناء والعقارات، أصرت الحكومة على الاستثمار فى تلك القطاعات التى تعتبرها القاطرة الرئيسية لاستراتيجية النمو الاقتصادى. اتجهت الخطة القومية لعام 2015/2014 إلى الاعتماد على تلك القطاعات فى توليد نمو سريع، حيث خططت الحكومة لمعدل نمو يبلغ 6.3% فى قطاع التشييد والبناء ولمعدل نمو 5.6% فى قطاع العقارات، وهى المعدلات الأكثر ارتفاعا ما بين كل القطاعات الاقتصادية. وفى الخطة القومية لعام 2015/2016 خططت الحكومة لنمو يبلغ 8.1% فى قطاع التشييد والبناء و6.4% فى قطاع العقارات.
الفلسفة التى تكمن وراء هذا النهج الحكومي هي استغلال أكثر المصادر توفرًا فى مصر – الأراضى – كوسيلة لتمويل عجز الميزانية وزيادة الموارد العامة. ولكن الموازنة العامة لعام 2016/2015 تظهر أن “هيئة المجتمعات” لن تساهم إلا بحوالى 8 مليارات جنيه للخزانة العامة، أى أقل من 1% من النفقات العامة. 9 بل وكانت هذه نسبة مساهمة “هيئة المجتمعات” فى النفقات العامة أكثر انخفاضًا فيما قبل، وفقًا لبيانات الموازنات العامة للأعوام السابقة.
والجدير بالذكر أن “هيئة المجتمعات” كانت ملتزمة فى الماضي بدفع جانب من فائض ميزانيتها “لصندوق الإسكان الإجتماعي” وفقا للقرار 33 لعام 2014. وقد تم تعديل هذا القرار فى 2015 على نحو يلغى هذا الالتزام.
تعد “هيئة المجتمعات” القناة الرئيسية للاستثمار فى الأراضي والمجتمعات العمرانية الجديدة. وهى أيضًا الهيئة الاقتصادية المسؤولة عن تنفيذ وإدارة جميع المشروعات وعن تقديم الخدمات وممارسة الرقابة الإدارية فى المدن الجديدة.
في 2015/2016، بلغت ميزانية “هيئة المجتمعات” 64.6 مليار جنيه، فى حين بلغت ميزانية المشروعات بها، وفقًا لموقع الهيئة، 33.2 مليار جنيه. ويلاحظ أن 5.6 مليار جنيه من ميزانية المشروعات مخصصة لإقليم القاهرة الكبرى وحده، بينما تأتى مدينة 10 رمضان فى المرتبة الثانية بمخصصات قدرها 3.5 مليار جنيه. ويصل الاستثمار العام فى هاتين المدينتين وفى العاصمة الجديدة إلى حوالى 42% من مشاريع “هيئة المجتمعات” فى ميزانية 2015/2016. ومن غير الواضح لماذا استحوذت تلك المدن على نصيب الأسد من ميزانية “الهيئة العامة”. أما بالنسبة لتوزيع استثمارات “هيئة المجتمعات” بين مختلف القطاعات فى 2015/2016، الموضح فى الشكل البيانى أدناه، فإن معظم الاستثمارات تتوجه إلى الإسكان ثم النظافة العامة وبعدها الطرق والكهرباء والمياه وصيانة البينة التحتية والخدمات والاتصالات والزراعة.
ويلاحظ أن “هيئة المجتمعات” زادت من انفاقها على المدن الجديدة بشكل ملحوظ العام الماضى. 10 فى 2014/2015، كانت الاستثمارات الكلية “لهيئة المجتمعات” فى المدن الجديدة تبلغ 7.3 مليار جنيه مصرى، ولكنها زادت إلى 26.2 مليار جنيه فى خطة 2016/2015، علاوة على 5 مليارات جنيه مخصصة للعاصمة الجديدة، و2 مليار أخرى لمشروع “المليون فدان“. وبهذا نرى أن إجمالى استثمارات “هيئة المجتمعات” فى المدن الجديدة هى 33.2 مليار جنيه، وهو ما يساوى أربعة أضعاف الانفاق الاستثمارى الإجمالى على قطاع التعليم القومي، أو خمسة أضعاف الاستثمارات القومية فى قطاع الصحة فى نفس العام. فى غضون ذلك، فإن ميزانية وزارة التطوير الحضرى والعشوائيات، التى تم إلغاؤها، لم تتخط 0.6 مليار جنيه فى نفس السنة. والجدير بالذكر أن مهام الوزارة المذكورة كانت تختلف كثيرًا عن مهام “هيئة المجتمعات” (مثلا، لم تكن وزارة التطوير الحضرى والعشوائيات تتولى بناء شبكات للبنية الأساسية، وهو أمر تقوم به “هيئة المجتمعات”)، ولكن هذا الفارق الشاسع يوضح مدى اتساع الفجوة بين مستوى الانفاق الاستثماري فى المدن الجديدة ومستواه فى المناطق المحرومة بالمدن القائمة.
بالإضافة لما تنفقه “هيئة المجتمعات” على المجتمعات العمرانية الجديدة، فإن نفقاتها الجارية مرتفعة إلى حد كبير. 11 فى خلال ثلاث سنوات متتالية كان متوسط الأجور والحوافز الشهرية لموظفى “هيئة المجتمعات” يفوق ثلاثة أضعاف المتوسط ذاته للعاملين في قطاعي الصحة والتعليم مجتمعين. وفقًا لبيانات الحساب الختامي لميزانية “هيئة المجتمعات” لعام 2013/2014 فإن المرتب الشهرى المتوسط لموظف الهيئة هو 7692 جنيها، مقارنة بمتوسط يبلغ 2272 جنيهًا للعاملين في قطاع الصحة، ومتوسط 2991 جنيها للعاملين في قطاع التعليم. 12 وإن افترضنا أن عدد العاملين لم يتغير، فإن متوسط المرتب الشهرى لموظف “هيئة المجتمعات” قد أصبح 10020 جنيهًا فى ميزانية 2015/2016، مقارنة بمتوسط مرتب قدره 3542 جنيه فى قطاع التعليم العام و3296 فى قطاع الصحة العامة، وذلك بعد كل الزيادات الأخيرة فى المرتبات وتطبيق سياسة الحد الأدنى للأجور وبعد الإضرابات المتتالية فى قطاعي التعليم والصحة. (وزارة المالية، 2015).
بناء على ما سبق، يتضح أن التكلفة المرتبطة بزيادة أحجام وأعداد المدن الجديدة تصل إلى أكثر من ضعف الإنفاق القومى على التعليم والصحة مجتمعين. وقد أوضحت هذه الورقة أن المدن الجديدة قد فشلت فى تحقيق أهدافها المرجوة بشأن عدد السكان المستهدف بها. والأدهى من هذا هو أن نفقات “هيئة المجتمعات” تتزايد بمعدل أكبر من معدل زيادة السكان فى المجتمعات العمرانية الجديدة وهو ما يتعارض أساسًا مع مبدأ اقتصاديات السعة (economies of scale) –حيث تؤدي الزيادات المطردة في الإنتاج إلى انخفاض متوسط التكاليف على المدى الطويل. ويعنى هذا الوضع أن الأموال التى تنفق من أجل نقل شخص للحياة فى مدينة جديدة أصبحت فى غاية الارتفاع. وهو وضع يطرح أسئلة كثيرة حول مدى صلاحية وكفاءة تلك السياسة.
بلغ فائض “هيئة المجتمعات” الذى يتم تحويله إلى ميزانية الدولة حوالي 8 مليارات جنيه فى 2016، وهو أقل من 1% من الانفاق العام الكلي. وبرغم حجم هذا الفائض وتأثيره الإيجابي على تقليل العجز فى الموازنة العامة، فهو ليس كافيًا لتبرير الخطاب الحكومى السائد أو لدعم الانطباع الموجود بأن التوسع فى المدن الجديدة هو أمر مفيد للميزانية العامة واستراتيجيات مصر الاقتصادية. ولابد أن نلاحظ أن الخطاب الحكومى يخلو من أي دليل على فائدة تلك السياسات ومن أي نقاش حول تخفيض محتمل للإنفاق على المدن الجديدة أو حول تأثير ذلك على النمو الاقتصادى فى البلاد.
أما عن وفائها باحتياج توفير المسكن لغالبية المصريين، فقد تم تخصيص نسبة قليلة من الأراضي في المجتمعات العمرانية الجديدة للإسكان المتوسط والاقتصادي، ولكن لا يوجد أي طريقة واضحة لقياس ما إذا كان تخصيص تلك الأراضي يلبي بالفعل الطلب على الإسكان لتلك الفئات. والأدهى هو أن الوحدات السكنية التى تبنيها “هيئة المجتمعات” لا تصل فى معظم الأحوال إلى الفئات الفقيرة والمتوسطة، وحتى عندما تصل إلى تلك الفئات فإنها لا تفي باحتياجاتهم للوظائف والنقل والتعليم وخلافه.
تقدم المدن الجديدة فرصة للحكومة المصرية لإصلاح الكثير من المشاكل الموجودة فى الجهاز الإداري المحلي، بما فى ذلك المركزية الزائدة عن الحد وغياب آليات المشاركة المحلية . ولكن بدلًا من يتم انتهاز تلك الفرصة، فإن المدن الجديدة للأسف الشديد شهدت إعادة لإنتاج نفس المشاكل القديمة وعلى نحو أسوأ. تدار المدن الجديدة، خلال هذه المراحل الابتدائية من إنشائها من قبل “جهاز مدينة” التابع “لهيئة المجتمعات”. بينما يقضي القانون بتسليم تلك المدن بمجرد “استكمالها” إلى المحافظات التابعة لها وحل “جهاز المدينة” المذكور. لم يحدث هذا حتى الآن، ربما باستثناء مدينة 15 مايو التى أصبحت تظهر على موقع محافظة القاهرة باعتبارها حى من الأحياء، ولكنه يظل احتمال. وبسبب نقص الشفافية لا يمكن التحقق من عدد المجتمعات العمرانية الجديدة التى تم تسليمها إلى المحافظات (إن كان هذا قد حدث من الأصل). ويخشى أن يؤدى تواجد نوعين من أنظمة الحكومة إلى ازدواجية في الإدارة المحلية وإلى تفاقم أوضاع الصراعات والتفتت الحالية13.
لقد أثبتت سياسة المدن الجديدة عدم كفاءتها على مدى العقود الأربع الماضية، كما أنها لم تنجح فى الوفاء بأي من أهدافها. والواقع أنها حادت عن التزامها الأساسي بالعدالة الاجتماعية وبتوفير الإسكان بأسعار في المتناول. لقد أصبحت “هيئة المجتمعات” سمسارًا للعقارات يتعامل مع أراضي الدولة وكأنها مورد يجب تعظيم الربح منه ولو أدى ذلك إلى تشويه سوق الإسكان الحالى بأكمله. لذا فإن أكثر الموارد توفرًا فى مصر – أي الأراضي – قد أصبح بشكل غير مفهوم أكثر الموارد كلفة وأصعبها منالًا. بينما من المفترض، في ظل نظام للحوكمة العمرانية العادلة، أن تلعب الأراضي وظيفة اجتماعية وليس مجرد وظيفة اقتصادية، وذلك بناء على مبدأ أن المدينة تخص الجميع. 14 وعندما قامت “هيئة المجتمعات” بتحويل الأراضي إلى سلعة، فإن هذا المبدأ قد تلاشى تمامًا، وأصبحت التنمية فى مدن مصر تتم لصالح فئات مختارة من الشعب –الأكثر ثراءًا بالطبع- لا للصالح العام.
2.مدن الجيل الأول، كما وردت في موقع “هيئة المجتمعات”، هي: 10 رمضان، السادات، برج العرب الجديدة، 15 مايو، دمياط الجديدة، 6 أكتوبر، الصالحية الجديدة.
3. للمزيد من المعلومات حول دور المنظمات الدولية في التنمية العمرانية بمصر أنظر مقالة “تضامن” هنا.
4.مدن الجيل الثانى، كما وردت في موقع “هيئة المجتمعات”، هي: القاهرة الجديدة، الشيخ زايد، بدر، العبور، بنى سويف الجديدة، المنيا الجديدة، النوبارية الجديدة، الشروق، خليج السويس.
5.مدن الجيل الثالث، كما وردت في موقع “هيئة المجتمعات”، هي: أسيوط الجديدة، طيبة الجديدة، سوهاج الجديدة، أسوان الجديدة، قنا الجديدة، الفيوم الجديدة، أخميم الجديدة.
6. يتم تحديد “السنة المستهدفة” عند تخطيط مدينة جديدة لكي يعرف المخططون ما هي القدرة الاستيعابية للسكان وأيضًا معدلات النمو المتوقعة، وبالتالي يمكنهم تخطيط الخدمات والمرافق على هذا الأساس.
7. لم يتم الإعلان بشكل واضح عن نقل للسلطة من “هيئة المجتمعات” إلى الإدارة المحلية بالنسبة لأي من المجتمعات العمرانية القائمة وعددها 23.
8.أوضح سكان مدينة العبور فى نقاشاتهم مع فريق “تضامن” أن المدينة تمثل في نظرهم أيضًا مدينة أشباح باستثناء عدد قليل جدًا من الناس يعيش بالفعل هناك. ويجب أن نتذكر أن تقديرات “هيئة المجتمعات” للسكان تعتمد على قطع الأراضي المباعة وليست المسكونة.
9.هذا المبلغ المستهدف في ميزانية 2015/2016 هو أعلى بكثير من التحويلات الفعلية خلال العامين الماضيين. وتلك الزيادة يمكن أن تعود في جانب منها إلى الاختلاف في الأنظمة المحاسبية بين “هيئة المجتمعات” ووزارة المالية.
10. تقدم “هيئة المجتمعات” ميزانيتها إلى وزارة الإسكان سنويًا لاعتمادها، ثم ترسل بعد ذلك إلى وزارة المالية للموافقة النهائية.
11. النفقات الجارية “لهيئة المجتمعات” لا تدخل في مبلغ الـ 33.2 مليار جنيه (الذى يوجه بالكامل للمشروعات). ولكنها تدخل، ضمن بنود أخرى، في مبلغ الـ 62.2 مليار جنيه الذي يمثل ميزانية “هيئة المجتمعات” بأكملها.
12. هذا العدد محسوب على أساس متوسط المرتبات لكل الهيئات الاقتصادية التابعة لقطاع الأسكان، وهى ثلاث هيئات أكبرها هي “هيئة المجتمعات”.
13. للحصول على تفاصيل أكثر عن دور المحليات برجاء مراجعة مقالة “تضامن” بعنوان “لماذا توقفت الثورة عند مستوى المحليات”؟
14. للاطلاع على تفاصيل أكثر عن الوظيفة الاجتماعية للملكية برجاء مراجعة مقالة “تضامن” بعنوان “الوظيفة الاجتماعية للمدينة وللملكية العمرانية فى الدستور المصرى“
أبو المجد، د.، 2011. الإسكان للفئات محدودة الدخل فى القاهرة الكبرى
Abouelmagd, D., 2011. HOUSING FOR THE LOW INCOME GROUPS IN GREATER CAIRO: AN INTERPRETATION OF POLANYI’S MODES OF ECONOMIC INTEGRATION. Presented at the N-AERUS XII, Madrid.
جريدة “ديلى نيوز إيجبت”، نظرة عميقة على مدن الأشباح بالقاهرة. (2012). بالإنجليزية.
DNE. (2012). A closer inspection of Cairo’s ghost towns. Daily News Egypt.
جليلة القاضى (1992)، دراسة حالة فى إدارة المدن (القاهرة الكبرى). بالإنجليزية.
El-Kadi, Galila. (1992). Case Study on Metropolitan Management (Greater Cairo).
السيد، شوقى (2015)، الإسكان الاجتماعى، بين العشوائيات والأمن القومى، المصرى اليوم.
وزارة الإسكان الظل. (2013)، عمران الحكومة، المدن الجديدة.، فيلم تسجيلى.
سيمز، دافيد (2014)، أحلام الصحراء بمصر: تنمية أو كارثة. الجامعة الأمريكية بالقاهرة. بالإنجليزية.
Sims, David. (2014). Egypt’s Desert Dreams: Development or Disaster. American University in Cairo Press.
شوكت، يحيى (2014)، ورقة سياسات: كيف لا نساعد المحتاج ونتحيز ضد الفقراء. المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. بالإنجليزية.
Shawkat, Yahia. (2014). Policy Note: How Not to Support the Undeserving and Discriminate Against the Poor – EIPR Recommendations on New Income Conditions for the Social Housing Project. The Egyptian Initiative for Personal Rights.
هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة (2015)، نظم الاستثمار العقارى لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة.
تضامن (2014) دور المنظمات الدولية فى تخطيط القاهرة
تضامن (2015) اعرف مدينتك، مساكن عثمان
يحيى، فاطمة (2015)، الاسم مدن قديمة والفعل مدن الأشباح، جريدة الأهالى
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments