ملخص
على مدار عقود كان ما يعرف بـ"الحسابات الخاصة" لغزاً غامضاً في شأن العمل الحكومي في مصر
مع احتدام الأزمة الاقتصادية في مصر والبحث عن طرق لتخفيف الأعباء المالية، تطفو إلى السطح أفكار نوقشت سابقاً لإصلاح هيكل الموازنة العامة المصرية، ومن بينها تحقيق ما يسمى "وحدة الموازنة"، بما يعني إدخال موازنات الهيئات الاقتصادية والصناديق الخاصة في الموازنة العامة للدولة، بعد عقود من خروج آلاف الموازنات من عباءتها، على رغم تجاوز إجمالي موازنات الهيئات قيمة الموازنة المصرية التي ينفق منها على خدمات واحتياجات 106 ملايين مصري.
ملف توحيد الموازنة أعاد فتحه وزير المالية الأسبق أحمد جلال، خلال تصريحات تلفزيونية، إذ بشر بانخفاض مشكلة الدين العام "لحظياً" في حال الالتزام بمبدأ وحدة الموازنة. ويشغل جلال منصب مقرر المحور الاقتصادي في الحوار الوطني، وهي الجهة التي أوكل إليها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إجراء حوار حول التحديات الاقتصادية التي تواجهها مصر.
أزمة وموازنتان
بلغ حجم الدين الخارجي في مصر 164.7 مليار دولار بنهاية العام المالي الماضي 2022 - 2023، ويقدر البنك المركزي المصري حجم الالتزامات المالية وأقساط الديون خلال 2024 بأكثر من 42 مليار دولار، فيما تعاني العملة المحلية انخفاض قيمتها بنحو 50 في المئة مقارنة بمعدلات فبراير (شباط) 2022، إذ يساوي الدولار الواحد نحو 30.9 جنيه في البنوك والمصارف، بينما يتجاوز ضعف هذا الرقم في السوق الموازية. وبلغ عجز الموازنة العامة خلال الأشهر السبعة الأولى من العام المالي الحالي، الذي بدأ في يوليو (تموز) 2023، إلى 5.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بنهاية يناير (كانون الثاني) الماضي في مقابل 4.37 في المئة قبل عام، بحسب وزير المالية المصري محمد معيط.
وفاقمت التوترات السياسية في المنطقة من أزمة الاقتصاد المصري، إذ تراجعت إيرادات قناة السويس 40 في المئة على أساس سنوي في النصف الأول من يناير، بعد الهجمات التي شنها الحوثيون في اليمن على السفن التجارية في البحر الأحمر، وتأثيرها في حركة الشحن في الممر البحري، كما أدت الحرب في غزة إلى تراجع إيرادات السياحة.
بحسب تصريحات لوزير المالية المصري في مارس (آذار) 2022، توجد موازنتان في مصر، الأولى هي الموازنة العامة للدولة التي يديرها بها الوزير، والأخرى هي موازنات 55 هيئة اقتصادية لكل منها موازنة خاصة، من المفترض أن تحصل من خلالها على إيرادات وتنفق على احتياجاتها، لكن الوزارة تتدخل لتقديم دعم مالي للهيئات التي لا تكفي إيراداتها احتياجاتها. وكشف عن أن إجمالي موازنات الهيئات الاقتصادية الخاصة حينها بلغ 2.25 تريليون جنيه، أي أكثر من الموازنة العامة للدولة التي قدرت في ذلك الوقت بما يتراوح بين 2 و2.1 تريليون جنيه، وفقاً لمعيط.
الهيئات الاقتصادية
ارتفع عدد الهيئات الاقتصادية بعد أشهر من تصريحات الوزير إلى 59 هيئة في موازنة العام المالي 2022 – 2023، ووفق تقرير برلماني تتوزع تلك الهيئات على 12 قطاعاً في الدولة، هي الزراعة والري والصناعة والبترول والتعدين والكهرباء والطاقة والنقل والاتصالات والمعلومات والتجارة والتموين والمال والاقتصاد والإسكان والتشييد والخدمات الصحية والدينية والقوى العاملة والثقافة والإعلام والسياحة والدفاع والأمن وقطاع التأمينات.
وينص الدستور المصري (الصادر عام 2012 وعدل في 2014) في المادة 124 على أن تشمل الموازنة العامة للدولة جميع إيراداتها ومصروفاتها من دون استثناء، إلا أن قانون المالية الموحد الذي صدر عام 2022 نص على أن الموازنة العامة للدولة تتضمن المخصصات المالية للبرامج التي يقوم بها كل من الجهاز الإداري للدولة ووحدات الإدارة المحلية والهيئات العامة الخدمية، لكنها لا تتضمن المخصصات المالية للهيئات العامة الاقتصادية، على أن "تقتصر العلاقة بين موازنات هذه الهيئات والصناديق وبين الموازنة العامة للدولة على الفائض الذي يؤول إلى الخزانة العامة، وما يتقرر لهذه الموازنات من قروض ومساهمات".
تضارب الأرقام
على مدار عقود كان ما يعرف بـ"الحسابات الخاصة" لغزاً غامضاً في شأن العمل الحكومي في مصر، وهي وفق تعريف رسمي بتقرير لوزارة المالية "تمول نفسها ذاتياً من الرسوم التي تؤول لها في مقابل خدمات تؤديها تلك الجهات من دون تحميل الخزانة العامة أية أعباء"، وذكر التقرير، الذي أرسلته المالية إلى مجلس النواب عام 2017، أن عدد الصناديق والحسابات الخاصة 3965، يبلغ إجمالي أرصدتها نحو 30.8 مليار جنيه، فيما قال وزير المالية أمام البرلمان في مايو (أيار) 2023 إن الوزارة قامت بإحصاء دقيق على مدار ثلاث سنوات كشف عن وجود 7776 حساباً خاصاً، و505 حسابات صناديق خاصة.
تقديرات أخرى تشير إلى عدد أكبر من هذه الصناديق، إذ كتب رئيس مدينة الإنتاج الإعلامي عبدالفتاح الجبالي، وهو من كبار متخصصي الاقتصاد في مصر، في مقالة بصحيفة "الأهرام" المصرية بتاريخ الـ24 من مايو 2023، أن عدد الصناديق والحسابات الخاصة بلغ 6451 في نهاية يونيو (حزيران) 2021، وقدرت المبالغ بها بنحو 81.2 مليار جنيه وفق تقديرات سبتمبر (أيلول) 2022، مع ملاحظة أن بعض الصناديق بقيت خارج تلك التقديرات. وبعد أن ظلت الحسابات والصناديق الخاصة تنشأ بقرارات من الوزراء والمحافظين لعقود، نص قانون المالية الموحد على عدم جواز إنشاء صناديق جديدة إلا بقانون للسيطرة على ذلك الملف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى رغم الاستقلال عن الموازنة العامة فإن خزانة الدولة تدعم العاملين في بعض الهيئات والصناديق الخاصة التي لا تستطيع إيراداتها الوفاء بمصروفاتها، بخاصة رواتب العاملين، إذ تصرف خزانة الدولة مبالغ لهؤلاء العاملين آخرها إعلان وزارة المالية الشهر الماضي أنها صرفت 2.2 مليار جنيه رواتب للعاملين في بعض الصناديق والحسابات الخاصة بالمحافظات بين يوليو (تموز) الماضي ومارس المقبل، متوقعة أن يصل الدعم إلى 3 مليارات جنيه بنهاية العام المالي الحالي (الـ30 من يونيو المقبل).
ومنذ عام 2016، صدرت قرارات حكومية سنوياً بتوريد نسبة تتراوح بين واحد و15 في المئة من جملة إيرادات الصناديق الخاصة في نهاية العام المالي، مع استثناء صناديق البحث العلمي والإسكان الاجتماعي وغيرها.
ليس وحده الحل
يرى أستاذ التمويل والاستثمار بجامعة القاهرة هشام إبراهيم، أن المطالبة بوحدة الموازنة في مصر ليست أمراً جديداً، فقد بدأ منذ 2011 مع أول تعثر للاقتصاد المصري من أجل إحكام السيطرة على إيرادات الدولة وتوجيهها في أوجه الإنفاق المطلوبة وفق خطة محددة.
وعلى رغم إقراره بأن مبدأ "وحدة الموازنة" صحيح، لكنه قال لـ"اندبندنت عربية" إنه ليس الحل السحري للاقتصاد المصري، بل هو خطوة ضمن خطوات أخرى لإعادة هيكلة وتصحيح مسار الاقتصاد في مصر، سواء ضمن الجهاز الإداري أو المسؤولين عن التشريع، مشيراً إلى أن فلسفة وجود صناديق وحسابات خاصة هو الإسراع بعملية التصرف بالموارد بدلاً من البيروقراطية التي تقضي بأن أي إنفاق من الموازنة العامة لا بد أن يمر عبر قانون يوافق عليه البرلمان ويصدق عليه الرئيس، بينما بعض الاحتياجات العاجلة لا تحتمل ذلك، مثل شراء شحنة قمح من الخارج.
وأكد أن دخول المبالغ الموجودة في الحسابات الخاصة للموازنة العامة لن يقلل الدين العام إلا بما يعادل "كسر عشري" من نسبة الدين، نظراً إلى أن الخدمات التي تنفق عليها تلك الصناديق والحسابات ستحمل على الموازنة، مشيراً إلى أن تنفيذ وحدة الموازنة يحتاج إلى جهد تشريعي وعزم من جانب الدولة قد يستغرق سنوات.
أمر صحي
بدوره أوضح الأكاديمي المتخصص في الاقتصاد كريم العمدة أن مبدأ وحدة الموازنة هو أمر صحي لأي اقتصاد في العالم ولتصحيح مسار الاقتصاد المصري، مشدداً على ضرورة إعادة البحث في آلية تعامل الهيئات مع وزارة المالية ورسم الموازنة العامة بشكل جديد.
وقال العمدة لـ"اندبندنت عربية" إنه "بالتأكيد ليست الحلول الاقتصادية فقط في وحدة الموازنة، لكن علينا وضع خطة للوصول إلى ذلك خلال السنوات المقبلة"، مشيراً إلى أن إدارة الموازنة المصرية بشكلها الحالي تختلف كثيراً عن معظم دول العالم.
ولفت العمدة إلى أن جمع جميع الموازنات لا يعني على الإطلاق حل المشكلة الاقتصادية في مصر، لكنه سيجعل من الإيرادات والمصروفات وطرق سداد الديون الخارجية وتحقيق الاستحقاقات الدستورية للتعليم والصحة أكثر انضباطاً وتنظيماً، مع إمكان تحقيق تخطيط أفضل لاقتصاد الدولة وفقاً للأرقام والإحصاءات مجمعة.
وشدد المتخصص الاقتصادي وائل النحاس على أن وحدة الموازنة قد تكون مفيدة في السيطرة على حجم النفقات، لافتاً إلى أن موازنات الهيئات والصناديق الخاصة منذ عصر الرئيس الأسبق حسني مبارك كانت باباً خلفياً للفساد وإهدار المال العام، وأكد النحاس لـ"اندبندنت عربية" ضرورة إعادة النظر في ملف الصناديق الخاصة وضمها إلى الموازنة بجانب الهيئات لتحقيق أكبر استفادة من مبدأ وحدة الموازنة.
مشكلة العمالة
في كل عام تقريباً تتصاعد مطالبات أعضاء البرلمان للحكومة بضم الصناديق الخاصة لموازنة الدولة بهدف تعزيز الرقابة عليها، أو في الأقل تعزيز الرقابة على إيراداتها وأوجه إنفاقها.
والسبب الرئيس الذي يحول دون القدرة على ضم الصناديق الخاصة إلى وزارة المالية بشكل كامل، كشف عنه مساعد وزير المالية لشؤون الموازنة العامة محمد عبدالفتاح، وهو العمالة التي عينت على تلك الصناديق، ويقدر عددهم بين 250 إلى 300 ألف موظف، مضيفاً في تصريحات سابقة أن ضم الصناديق يستتبعه ضم العمالة التابعة لها.
وكانت بداية نشأة الصناديق الخاصة في الخمسينيات من القرن الماضي، وكان تقنين وجودها بدءاً من قانون الموازنة العامة لعام 1973، الذي سمح لرئيس الجمهورية بتخصيص موارد معينة لصناديق خاصة يقررها هو لاستخدامات خاصة، وتوسع الأمر في عهد الرئيس السابق مبارك.