Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

From $11.99/month after trial. Cancel anytime.

يوميات وطن محاصر
يوميات وطن محاصر
يوميات وطن محاصر
Ebook423 pages2 hours

يوميات وطن محاصر

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كتاب "يوميات وطن محاصر"، للكاتب الكبير والصحفي اللامع أشرف بيدس، والصادر عن دار سما للنشر والتوزيع
رواية أقرب للواقع تروى لنا تفاصيل الحياة اليومية بأدق تفاصيلها ومرارتها بوطن محاصر من عدو صهيونى
Languageالعربية
Release dateJul 5, 2024
ISBN9781284601152
يوميات وطن محاصر

Read more from أشرف بيدس

Related to يوميات وطن محاصر

Related ebooks

Reviews for يوميات وطن محاصر

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    يوميات وطن محاصر - أشرف بيدس

    الغلافPage1.xhtmlPage2.xhtml

    الإهداء

    إلى محمد عيسوي

    معنى جديد للصداقة..

    وكان طبيعيًّا أن يُهدى الكتاب إليك؛

    لأنك جاهدت ليخرج للنور..

    أشرف

    مقدمة الدكتور إبراهيم السايح

    في تقديمه للكتاب والكاتب

    بعد أن تفرغ من قراءة هذا الكتاب سوف تكتشف أن المؤلف قد أخفق في اختيار العنوان الصحيح، فالواقع أن هذه المقالات لا تمثل «يوميات وطن محاصر» بقدر ما تعبر عن أزمة مواطن عربي مازال يحتفظ بكرامته رغم تنازل الأمة بأكملها عن كرامتها القومية!

    مشكلة أشرف بيدس ليست حرصا على الوطن فحسب، بقدر ما هي مشكلة شخص «عنده دم» يعيش بين ملايين من مدمني «الجبلنة» والسلبية والتخاذل والنفاق والفساد والتخلف والسمع والطاعة.

    توقفت الحياة بهذا الكاتب عند حدود العقد السادس من القرن الماضي يوم كانت الأمة العربية تقود كل مظاليم العالم نحو التحرر والتقدم والعزة والكرامة والمجد القومي.

    نام أشرف بيدس - كأهل الكهف- في محطة فلسطين منذ عهد عبد الناصر ففاته قطار كامب ديفيد وقطار الانفتاح وقطار التطبيع الاستراتيجي وصراع الأشقاء في الأرض المحتلة.

    إن كنت ممن يجيدون الأبجدية العربية الجديدة فانك سوف تقرأ هذا الكتاب بصعوبة بالغة، وقد تحتاج إلى خبير يساعدك في ترجمة المفردات الثورية والرومانسية التي خرجت من قاموس الأمة العربية بمقتضي بنود معاهدة السلام، قد تعجبك اللغة الرشيقة التي يستخدمها الكاتب ويمزج فيها بين الشعر والنثر، وقد تنتزع بعض الفقرات دموعا حقيقية من عينيك، ولكنك لن تدري وقتها هل تبكي على الوطن أم على نفسك أم على الكاتب. حالة الالتباس الرهيب التي يعيشها العرب طوال العقود الثلاثة الماضية لا تسمح بظهور شخص مثل «أشرف بيدس» ولا تسمح لأحد بالتعاطي الحقيقي مع هذا الوجد الوطني المشبوب الذي تنضح به كل كلمة وكل سطر من مقالات هذا الكاتب الجميل.

    في زمن مضى كان مثل هذا الكتاب كفيلا بإثارة مشاعر ملايين البشر ودفعهم إلى ميادين القتال لاستعادة شرف وكرامة وحاضر ومستقبل هذه الأمة، ولكننا الآن نقترب من ذروة أحد أسوأ عصور الانحطاط في تاريخنا، لم يعد لدينا قتال ولا ميادين، وحتي الميادين المدنية - كميدان التحرير - بدأنا نبحث عن مستثمرين أجانب لشرائها وتحويلها إلى مستعمرات صغيرة في قلب أكبر عواصم العرب!

    في زمن مضي كانت مقالات هذا الكتاب كفيلة بأداء نفس الدور الذي لعبته كتابات المفكرين والساسة والخطباء في الثورة الفرنسية، ولكننا الآن لم نعد نقرأ، وان قرأنا لا نفهم، وأن فهمنا لا نجد في أنفسنا إرادة النضال، وأن وجدنا هذه الإرادة فأننا سوف نصطدم بالواقع!

    رغم كل حلاوة وطلاوة وصدق ما سجله «أشرف بيدس» في هذا الكتاب، فإنك لن تتمكن من كراهية الصهاينة بقدر كراهيتك لصانعي الفساد والاستبداد والقهر والتخلف والتخاذل من اخوانك العرب، حكاما ومحكومين، أما إن كنت واحدا من الحكام أو الحاشية أو القطيع فإنك سوف تضع الأخ أشرف بيدس على رؤوس قائمة أعداء الأمة العربية، وسوف تعتبر هذا الكتاب لونا من ألوان الكتابة الكوميدية السياسية في عصر ما بعد الحداثة!!

    د. إبراهيم السايح

    الإسكندرية أغسطس 2012

    دعاء أمي

    بين حلم العودة وأحذية العسكر

    من رحم الدنيا الواسعة.. تضيق الأمكنة بي.. يختنق المكان والزمان.. وتزدحم الذاكرة بالأحداث.. تلفظني كل سنين الغربة.. أجد نفسي على حدود الوطن.. على حدود الحلم خائفًا.. مفزوعًا.. مذعورًا.. تتلقفني الأيادي القاسية.. والأسئلة الكريهة.. والنظرات الاشد كرها.. يتأرجح الحلم الجميل برؤية الوطن ويبدو محالًا في ظل إجراءات كان الغرض منها ترهيبي وتخويفي، وكسر كل رغبة في التحليق خلف تلك الأسوار الشائكة التي تفصلني عن جسد الأجداد الملقى في جبانات الوطن، يعاني من الوحشة وغياب الزائرين في مواسم البكاء.

    بعد دقائق سينقلني أتوبيس سياحي في رحلة برية، من وسط القاهرة النائمة متجهًا إلى رفح في فجر يوم ممطر مصحوبًا بموجات من الهواء البارد، وقبل لحظات قليلة من وداع أمي التي قَبلت يدي وحطمت آخر جدار واق أخفيت وراءه عجزي وقلة حيلتي وشعورًا بالخوف استبد بي وتملكني، حتى كدت أتراجع عن السفر، لولا الخجل من نظرات إخوتي الذين لمحت في عيونهم قليلًا من الشفقة وكثيرًا من الافتخار، انطلقت مع هواجسي وأحلامي لرؤية هذا المجهول.

    استقللت سيارة أجرة، ألقيت حقيبتي بالمقعد الخلفي واتكأت عليها، شق السائق الطريق مسرعا، ليحرمني دون أن يدري من نظرة أودع فيها الشوارع والبيوت وأملي عيني من عبق الألفة والرحمة التي تسكن مدينتي الصغيرة، أو ربما كان يدرك ما كان يجول بخاطري، وتحسس خوفي الذي حرضني على الرجوع، حتى كدت أقفز من السيارة عائدًا إلى البيت مبررًا ذلك بأنني لم ألحق الأتوبيس، لكنني امتثلت مجبرًا خاضعًا وأرجأت الهروب حتى أصل إلى محطة الأتوبيس، وهناك أحسست بقوة خفية تدفعني للصعود لأتخذ مكاني وسط جمع من المسافرين أغلبهم كانوا من يهود العراق وقد تخطت أعمارهم جميعًا الستين عامًا.

    لازال هاجس التراجع يدق في رأسي، وراح الخوف الذي لازمني طوال حياتي يفرض سطوته، لكني شعرت بأن العودة إلى منزلي باتت أمرا مستعصيا، ولم تعد مطروحة خصوصا عندما بدأ الأتوبيس في التحرك، حاولت أن أقرأ تلك الوجوه الغريبة التي ازدحم بها الأتوبيس علها تؤنسني في هذه الغربة الاضطرارية، لكنها زادت من اغترابي وشرودي، وبدأ رنين الكلمات العبرية ينتشر هنا وهناك ويستبيح أذني دون استئذان، وضحكات عالية وألفاظ سوقية تترامي ما بين الحين والحين، أصابتني بالدهشة والاستغراب، حتى راحت تلتف حول عنقي في محاولة للفتك بي.

    عرجت بنا السيارة إلى فندق شهر زاد المطل على النيل لتصطحب ما تبقى من ركاب، استمر الأمر بضع دقائق تخللها توتر ومشاكسات حولت الأتوبيس إلى ساحة صراخ بسبب تأخر بعض الركاب، مما أثار غضب وتذمر السائق والمشرف، قابله ثورة عارمة من بقية المسافرين اليهود الذين دافعوا عن زميلهم المتأخر، ووصل الأمر إلى أن هددوا بالنزول من الأتوبيس إذا لم يتم استبدال السائق، وبعد مداولات ومناقشات من جانب ضابط الأمن الذي كان يرافق الأتوبيس في سيارة شرطة هدأ المسافرون واستسلموا للأمر الواقع بعد أن أخبرهم بأن تغيير السائق سيستلزم وقتا وربما تلغى الرحلة أو تؤجل ليوم آخر، لكن ذلك لم يمنعهم من إطلاق بعض الألفاظ النابية بالعربية والعبرية على السائق، الذي لم يصمت وراح يراشقهم بالألفاظ والشتائم دون أن يخشى شيئًا وبتشجيع من المشرف، وبعد فترة من الوقت بينما السيارة تقطع طريقها وتتخطى القاهرة التي مازالت تغط في نومها، بدأ الركاب يستسلمون للسكينة، وانكب السائق على عجلة القيادة يتجاذب الحديث الهامس مع المشرف ويتناولان الشاي والسندوتشات.

    جاءت جلستي بجوار صحفي إندونيسي يتكلم العربية بصعوبة، أرسلته الجريدة التي يعمل بها ليغطي أول انتخابات تشريعية ورئاسية باعتبارها حدثًا عالميًّا يشهده العالم وينتظرنتائجه، أحس «الإندونيسي» الرقيق بحالتي، وربما حاول أن يخرجني من حالة الصمت، فسألني عن هويتي واسمي وسبب زيارتي، وبدأت في الحكي المر عَلَّني أخرج من شرنقتي، لأفاجأ بأنني أفتح جرحًا غائرًا لم تندمل جروحه.

    «أنا من مواليد القاهرة، نزح أبي إلى مصر عندما هاجمت العصابات الصهيونية حي المنشية مسقط رأسه (إحدى أحياء مدينة يافا المطلة على البحر) وكان ذلك صبيحة 24 إبريل 1948، ثم أعقبته بإلقاء قنابل الهاون والصواريخ لمدة أربعة أيام متتالية، لم ينقطع فيها دوي الانفجارات، ليتمكنوا من الاستيلاء على «المنشية وتل الريش» ثم يعقبه سقوط أحياء «سلمة والعباسية وبيت دجن»، ويكتمل المشهد الكارثي بفرار اللجنة القومية عن المدينة في سيارات بريطانية مصفحة، مما انعكس على سكان تلك المدن الذين اصابهم الرعب والذهول عندما شاهدوا سقوط القوات العربية قبل سقوط المباني، لتعم الفوضي والاضطراب الارجاء ويستولي القبح على ما تبقي من عزيمة ومثابرة، فيترك الآلاف من الاهالي بيوتهم باحثين عن طريقة للفرار من الجحيم الذي راح يعربد ويدمر كل شيء على الأرض، ويلجأون للهروب على القوارب متجهين إلى غزة ولبنان ومصر، يحمل أبي أمه وأخوته (مصطفي، ياسين، طه، أحمد، ثريا، سعاد) على قارب ليصل إلى مصر محطة الأمان والاستقرار، ويكتشفوا بعد أن غاص القارب في عمق البحر بأن هناك أخًا آخر (محمد) لم تمهلهم الغفلة من اصطحابه ليبقي وسط الخراب وتنقطع أخباره، تتفرق السبل بالإخوة في القاهرة بعد سنوات قليلة، ويلجأ البعض إلى السعودية، والبعض الآخر إلى اليمن، ويبقي والدي في القاهرة ليتزوج من أمي، وينجب 7 أولاد (سليمان، زاهي، صلاح، سعاد، أشرف، فيفي، رضا) في محاولة للتدثر من غضبة الأيام ورحيل الأشقاء والوحدة، ثم يلحق بالأشقاء وافد جديد (حمدى) في ظروف استثنائية، وتنقطع صلتنا بالوطن إلا من أخبار شحيحة تختبئ في الذاكرة من حكي قديم تآكلت تفاصيله عبر السنوات والأيام».

    أما عن سبب زيارتي فقد تلقى المركز الذي أعمل به دعوة من الرقابة المحلية الفلسطينية وبعض منظمات المجتمع المدني لمراقبة أول انتخابات تشريعية تجرى في فلسطين، ورأى زملائي أنها فرصة جيدة، قد لا تسنح مرة أخرى للذهاب لرؤية وطني حتى ولو للمرة الأولى والأخيرة، فقمت بالاستعداد للسفر رغم تحذيرات أمنية نصحتني بعدم الذهاب، وكانت حجتهم في ذلك، أنني أحمل وثيقة سفر فلسطينية وغير مدرج في أي كشوف رسمية داخل فلسطين، وفي حالة حدوث أي حادث عارض، سأكون بلا دية وبلا ثمن، فرغم أنني اعيش في القاهرة لكني لست محسوبا عليهم، ولست أيضًا محسوبًا على الدولة الفلسطينية، وفي حالة فقدان وثيقة سفري، سأكون نصف كائن في مهب الريح، لا مأوى له سوى السجون الإسرائيلية، ومحققيها الغلاظ ليمارسوا لعبة التعذيب والتنكيل والاتهامات الجاهزة بأنني إرهابي غير مدون بقوائم الممنوعين أو المطلوبين أو حتى الخارجين على القانون، شخص هلامي استثنائي وغامض لا يملك من الدنيا سوى دعاء أمه المسكينة وكثير من الخوف والفزع ونوبات الصرع التي تصاحب الاقليات اينما ذهبوا، وبعيدًا عن التشبيهات المبالغ فيها والعبارات المفتعلة، فإن الواقع يرصد حالة من حالات الجنون قمت بارادتي الحرة بطرحها على واقع عفن ومرتبك، ويبدو أنني قررت أن أموت في زمن لا يحترم سوى الأوراق، دخلت قبرًا مظلمًا، احمل أمنيات مثالية وأحلامًا وهمية ومشاريع ناقصة البنيان، قررت أن أموت لأن الشمس الساطعة ذهبت في سكون المغارب بغير عودة، والنجم الضال في السماء الداكنة خفت ضياؤه في ليال مسكونة بالكوابيس، قررت أن أموت في رحلة العمر المستحيلة والجميلة وربما الأخيرة بحثًا عن وطن مفقود تحت أقدام العسكر، وأنا لا أحمل سوى دعاء أمي التي تنتظر شال الشتاء من رام الله القابعة تحت سطوة المعتدي.

    وضع مربك وشائك، ومخيف عندما نكتشف أن المواطن الفلسطيني المولود بالأرض المحتلة والذي يملك بيتًا وعملًا وهوية ليس له أي حقوق، فما بالكم بشخص يحمل كل هذه التناقضات، لملم الفجر خيوطه الرمادية، وفردت الشمس أشعتها ونورها على المكان، وأنا مازلت أستطرد في الحكايات التي دفَّأت قلبي المتجمد، وساعدني على الاستمرار نظرات «الإندونيسي» الحانية التي كانت تشجعني على سرد المزيد، تخطينا رفح المصرية وختمنا الأوراق، وعاد الأتوبيس الذي حملنا إلى القاهرة بطاقمه المصاحب لنا، لنستقل أتوبيسًا سياحيًّا آخر ليرافقنا للداخل.

    مضيت نحو مصيري المظلم، وترامي صوت أذان الظهر الذي بدأ يتلاشى حتى وصلنا إلى معبر رفح الفلسطيني الذي كان يديره في ذاك الوقت هيئة المطارات الإسرائيلية ومراقبون أوروبيون لم أر واحدًا منهم، حمل المكان كثير من الوجوه العربية واليهودية الطيبة والشريرة على حد سواء، اقتربت من البوابات الالكترونية التي منعتني صفارتها من المرور، وفي كل مرة كنت أخلع شيئا مما ارتدي حتى كدت اتجرد من ملابسي، لولا أن فطن الحارس بأن البوابة معطلة لذلك يخرج صراخها عند مرور أي شيء، فأرتديت ملابسي ومررت دون ان تطلق صفارة الموت، دخلت إلى قاعة كبيرة تترامي المقاعد على يمينها وشمالها، وتتخللها بعض الابواب التي تربط بمكاتبها وأروقتها الداخلية، بينما يقع في نهايتها حوائط زجاجية بها ممر صغير يدخل منه العائدون الذين خرجوا جميعا ولم يبق غيري.

    أشار لي بعض الأشخاص بالوقوف في أحد الأركان، استندت على جدار وُضِعت عليه صور لبعض المدن الإسرائيلية توسطتها لوحة لميناء ايلات، وعلي الفور تذكرت ما حدث به من تفجيرات على يد البحرية المصرية في أعقاب النكسة، ولكني سريعا ما نحيت هذا الهاجس عني، حتى لا ترصدني الكاميرات وتكتشف ما يجول بذهني، أحسست بذلك وارتميت على المقعد الذي يتذيل الصورة حتى أجنب نفسي النظر إليها، وحاولت أن أتجلي بعيدًا إلى أقصى الشمال أو أدنى الجنوب، فما احوجني للتوهان حتى وصلت إلى باحة سيدنا الحسين، ميدان فسيح واسع وكبير، ملئ بالباعة والدراويش، وكثير من طالبي الحاجة، الضوضاء تعم المكان، اقتربت من الباب العالي ودخلت، نور على نور، اقترب مني شيخ كبير، وسألني: لمن جئت يا ولدي؟ وقبل أن أجيب، قال: هل جئت للحسين؟ اجبت وشفتاي مرتعشة وعرقي يتصبب من فوق جبيني، بل جئت لاقابل الخليل، لم اقصد الحسين، فقد دعاني الخليل أن نلتقي هنا في ساحة المسجد لنصلي العصر معا، فتعجب الشيخ مما يسمع، وقال الخليل ليس هنا، وأضاف هنا يوجد مقام الحسين بن على بن فاطمة الزهراء، أخي الحسن وزينب، وحفيد المصطفى عليه أفضل صلاة واتم التسليم، وأشار بيديه: الخليل هناك، قلت لم أقصد خليل الله، أنا ابحث عن خليل دربي، لم يفهم الرجل كلامي، وطلب مني الاعادة، اعدت الكلام مرة ومرتين وثلاث حتى تلاشي وتلاشيت وخرجت من تجلياتي على صوت خشن يطلب مني وثيقة سفري، فناولته إياها متوسمًا خيرًا بنظرات خادعة تملؤها الوداعة والاستكانة، وبعد تفحص مغلول لمحتواها القاها على الأرض لألتقطها وأضم عليها يدي.

    ثم تعاقب آخر ليسألني عن وجهتي ولماذا أتيت؟ وبعد أن أجيب يمضي، ليأتي آخر بعد وقت قليل ويلقي على ذات الأسئلة وأجيب وأجيب، ثم تذكرت أنني أحمل رسالة توصية من الملحق الثقافي بالسفارة الإسرائيلية يدعى ديفيد كوفري لتسهيل مهمتي في العبور، فانطلقت لأقدمها لضابطة إسرائيلية كانت تقف خلف حاجز زجاجي تراقب أنفاسي وهي تخرج من صدري، لكنها لم تعرني الانتباه وتعاملت معي بغطرسة واحتقار شديدين ثم أمرتني بلهجة حازمة بالجلوس في مكاني بعد أن اخذت الرسالة ووضعتها جانبا، ولاحظت احمرار عينيها المتورمتين من البكاء وبقايا دموع على وجنتيها، رجعت مرة أخرى لأجلس على مقعدي خلف صورة ميناء إيلات. وسرحت في دموع تلك البائسة الشرسة التي كانت تفترسني بين حين وآخر.

    استبد بي القلق من مصيري المظلم الذي انتظره واشتقت لاشعال سيجارة لكن خوفي منعني من القيام بهذا العمل الجنوني والذي قد يدلل على شجاعتي وجرأتي، وأنا حريص أن اظهر ضعفي واستكانتي حتى استميل عطف الجميع، طال الانتظار.. تأتأة سأسأة.. تردد.. خوف.. تتلعثم الحروف داخلي.. تهرب مني كل ابجديات اللغة.. ومفردات التعبير.. أجد نفسي هشًّا.. وكأني ورقه القي بها في مهب الريح..

    اموت في جلدي.. ويموت جلدي فيَّ.. أتفحص المكان بعيون زائغة.. تبحث عن منفذ عن منقذ.. عن اعين رحيمة.. ترأف بي أو تشفق علي.. اتسول الشفقة من عدوي.. ومن جلادي.. ومن سجاني.. ومن سارق ارضي.. اتسول نظرات الشفقة من وجوه تتفحصني.. وتتهمني دون كلام.. اكاد اسقط ارضا من شدة فزعي..

    حان موعد انطلاق الأتوبيس الذي اقلني إلى داخل إسرائيل، ولكنني لم انتهي بعد من انهاء اجراءات الدخول، تقدمت مني «سيجال» وهي فتاة إسرائيلية تعمل بشركة السياحة التي ستقلنا على أحد أتوبيساتها للداخل، وقالت بلهجة قاسية: لابد أن تحدد موقفك في خلال عشر دقائق، أو أن تنهي إجراءاتك أو سنضطر آسفين للذهاب دونك.

    توقفت كثيرًا عند كلماتها: «أحدد موقفي» وتساءلت في سخرية همسًا: هل لشخص مثلي لا يجرؤ على إشعال سيجارة أن يحدد شيئًا؟

    يتبدد الحلم الجميل بلقاء الوطن الجميل.. ويتبدد الشجن الدافئ بحضن الارض الطيبة..

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1