إبراهيم الزبيدي هو صديق صدام حسين خلال الدراسة يروي مسيرته كما عرفها وعلاقته مع حزب البعث وهي اهم شهادة تقدم عن حياة الرئيس السابق الذي ما يزال يثير الجدل بعد سنوات طويلة من إعدامه المأساوي صبيحة يوم عيد.
عمل الزبيدي مذيعًا في إذاعة وتلفزيون العراق خلال الخمسينات والسيتينات وفر من العراق عام 1974 واصدر عام 1997 كتابه دولة الإذاعة.
يقول الزبيدي: من آخر الصفوف، من بيئة اليتم والفقر والإهمال، تمكن صدام حسين بذكائه الاستثنائي، وبشجاعته وصلابته، من الصعود إلى حيث يحكم دولة بحجم العراق، وفي أغنى مراحل تاريخها، موقعا جيوسياسيا ومالا وشعبا وثروة.
لم يكن أحد في قرية العوجة، وتكريت يناديه باسم صدام، مع تشديد الدال بل صدام، ويعني الصدام أو المصادمة، ولم يتحول إسمه إلى صدام التكريتي إلا بعد اغتيال قريبه الشيوعي سعدون الناصري، واتهام صدام باغتياله، واستماع محكمة المهداوي إلى شهادة شقيق القتيل، والشتائم التي صبها رئيس المحكمة فاضل عباس المهداوي، والمدعي العام على صدام.
ثم عاد فاضل المهداوي رئيس المحكمة العسكرية الخاصة، وماجد محمد أمين المدعي العام، إلى شتم صدام على موجات الإذاعة وشاشات التلفزيون، على أثر اتهامه بالمشاركة في محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم.
أصول صدام
صدام حسين من فرع آل المجيد المتفرع من البوناصر وأغلب أقاربه عاشوا في قرية العوجة التي تبعد عن تكريت جنوبا احد عشر كيلومترا، البعض منهم امتهن الزراعة، ومنهم إبراهيم الحسن زوج أمه صبحة طلفاح، أما الباقون عاطلون عن العمل، يعانون من الجهل والفقر، وقلة منهم تمكنت من الخروج من القرية إلى المدينة، والنجاح فيها.
وللتاريخ، أثبت هنا حقيقة عن صدام من أيام الصبا والشباب على الأقل حسب علمي، فقد كان مخلصا في صداقته، وشديدا في عداوته. أذكر أن لنا جار في تكريت اسمه ذكري، جاءني ذات يوم وهو مرتبك، وقال لي إن أحد المنافقين أبلغ الصدام بأن ابني شتمه، وأخاف من انتقامه، فنحن لسنا بقادرين على عداوة أهل العوجة، ورجاني باعتباري من أصدقائه الدائمين أن أبلغه (صدام) بكذب هذا المدعي، وبأن ابني مستعد لمقابلة الواشي أمامه ليتأكد من الحقيقة، يعني أن صدام، وهو لم يبلغ العشرين من عمره بعد، كان مهابًا في المدينة وضواحيها.
ذات يوم كنا نعوم ونمارس رياضة عن الثقل على شاطئ نهر دجلة في العوجة. أفلت من يدي المبللة بالماء حجر كبير، فأصابه في الجانب الأيسر من جبينه، فسقط على أثره مغمى عليه، وبعد أن أفاق أبلغني وأبلغ المرحوم عدنان خير الله بأن نقول إذا ما سأل أحد أقاربه عن سبب الإصابة إن قدمه زلت به وسقط، وذلك خوفا علي من الانتقام.
لعضو القيادة القطرية وعضو مجلس قيادة الثورة السابق صلاح عمر العلي توصيف لشخصية صدام حسين، فيه كثير من الصحة، ففي رأيه أن صدام كان شخصين في شخص واحد، فحينًا ترى فيه الشخص اللطيف المؤدب الذي يحترم محدثيه، ويستمع إليهم بود، وحينًا آخر، تجد فيه العنيف القاسي المستعد لقتل خصمه دون تردد، أما أنا وبحكم رفقتي الطويلة معه، فأجعله ثلاث شخصيات لا تشبه الواحدة منها الأخرى، الأولى شخصية الريف العراقي الطيب الكريم البسيط المسامح الممتلئ نخوة وشهامة، والثانية شخصية المتوثب المتمرد، العروبي المتعصب، والمعبأ بقصص خاله، خيرالله طلفاح عن الرجولة والشجاعة، ورفض الإهانة، أما الثالثة فهي الشخصية التي تشكلت بعد مشاركته في محاولة اغتيال الزعيم عبدالكريم قاسم، وهربه إلى سوريا، وسكنه في شقة صغيرة مع قادة حزب البعث العراقي، واكتشافه أنهم ليسوا أذكى منه ولا أشجع ولا أكثر صلابة وإقدام وجرأة، وهنا ولدت شخصية السياسي الطموح، المطالب بالمزاوجة المتقنة بين قيمه البدوية والقروية النائمة في أعماقه، وبين أخلاق السياسة وقيمها المدنية وطقوسها وموازينها، والشهادة لله، لقد أجاد صدام المواءمة بين النعومة والخشونة، وبين الحب والكره.
وقد ظهرت هذه الشخصية بوضوح بعد أن تولى منصب نائب رئيس مجلس قيادة الثورة في تشرين الثاني 1969، ففي النهار يستقبل المواطنين ويستمع لشكاواهم، ويلبي طلباتهم، ويزور منازل فقرائهم ويعطف عليهم، وفي الظلام، يدبر ويخطط وينفذ حملات تسقيط أعداء الحزب والثورة، ثم بعد ذلك أعداء القبيلة، ثم أعداء الأسرة الحاكمة، وأخيرا أعدائه وخصومه حتى لو كانوا من أقرب الناس إليه.
من صنع صدام؟
لعل أهم سؤال أغفله كثير من المحللين والمؤرخين، هو من الذي صنع صدام حسين ووضعه على طريق الصدارة المطلقة في الحزب والدولة؟ دعونا نبدأ الحكاية من أولها.
صدام لم يكن يفكر بالانتماء إلى حزب البعث قبل عام 1959، فقد كان لغاية عام 1958 يضيق بنا، نبيل نجم وعدنان خير الله ونزار الناصري وعطا محيي الدين وأنا، حين نتحدث عن الحزب والسياسة وهمومها، واستطيع أيضا أن أحدد بدقة تاريخ دخوله إليه في أوائل عام 1959، وهو ابن الثالثة والعشرين نصيرا متدربا، ثم كلف حتى قبل أن يصل إلى درجة نصير، بأن يشارك في أخطر عملية مصيرية يقدم عليها الحزب، وهي محاولة اغتيال الحاكم الأوحد عبد الكريم قاسم.
وفجأة، وجد النصير المتدرب صدام حسين نفسه في سوريا يردد شعار الحزب ويصبح عضوا عاملا، بحضور أعضاء أعلى قيادة في الحزب.
وفي سوريا، ثم في القاهرة كان لاجئا سياسيا، مع رفاقه البعثيين الذين شاركوا معه في محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم، وكان السائد آنذاك أن إطلاق النار على الزعيم عمل بطولي يجب على الحزب أن يعتبره ويعتبرهم من الأبطال المستحقين للتكريم، أو على الأقل للشكر والعرفان، ولكن القيادة القطرية الجديدة لحزب البعث فرع العراق بقيادة علي صالح السعدي حكمت على تلك العملية بأنها حماقة، ألحقت بالحزب أضرارا كبيرة، وبالتالي فإنها لن تكافئ القائمين بها: اياد سعيد ثابت وخالد علي صالح وأحمد طه العزوز وسليم الزيبق، وعلي حسون، وحاتم حمدان العزاوي وعبد الكريم الشيخلي وصدام حسين وسمير عزيز النجم وعبدالحميد مرعي وعبد الوهاب الغريري.
وتأسيسا على ذلك، كان يمكن أن يعود صدام من القاهرة بعد انقلاب حزب البعث في شباط 1963، ويصبح واحدا من بعثيين كثيرين أنعمت عليهم القيادة الجديدة بوظائف مجزية في الدولة، ثم طواهم النسيان بانقلاب عبد السلام محمد عارف ورفاقه الآخرين في الثامن عشر من تشرين الثاني 1963، ولكن الذي صنع صدام حسين وأوصله إلى القمة، في تقديري، هما اثنان: علي صالح الساعدي أمين عام القيادة القطرية الجديدة لحزب البعث في 1963، وأحمد حسن البكر أول رئيس وزراء في انقلاب شباب 1963، وهو من أهل العوجة ومن أبناء عمومة خير الله طلفاح وصدام حسين وإليكم البداية.
علاقته بأحمد حسن البكر
كان اتهام صدام باغتيال قريبه سعدون الناصري، مسؤول الحزب الشيوعي في تكريت العامل الرئيس الذي أغرى قيادة حزب البعث بإشراكه في محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم.
وبعد نجاح الحزب في الانقلاب على نظام عبد الكريم بقيادة علي صالح السعدي في 1963، عاد صدام من القاهرة إلى العراق، حالما بأن يستقبله الحزب بحفاوة تليق بالأبطال، وأن يعوضه بمركز متقدم في الحزب والحكومة.
ولو حقق له علي صالح السعدي ما كان يحلم به، ومنحه ذلك المنصب لجعله أحد أعضاء فريق القيادة المدنية للحزب وحرسه القومي، ولراح ضحية انقلاب العسكريين البعثيين في الثامن عشر من نوفمبر 1963، ولا أصبح نسيًا منسيًا كما صار حال علي صالح السعدي نفسه، وحازم جواد، وطالب شبيب وعلي الفكيكي، ومنذر الونداوي، ونجاد الصافي، وأخرين، ولكن القيادة استصغرت وعينته عضوا عاديا في المكتب الفلاحي التابع للحزب مع رفيقه أحمد طه العزوز في شقة صغيرة جدا تقع فوق محل كوي الملابس في الصالحية مقابل مبنى الإذاعة، وكانت تلك الأيام أكثر الأيام التي شهدت لقاءاتنا اليومية المتكررة، فقد زارني في الإذاعة مرات، ثم فضل اللقاء في المقهى المجاور للإذاعة تجنبا لإحراجي.
وبتلك الصحبة في تلك الأيام بالذات، تكشف لي عمق مشاعر الغضب الدفين في نفسه، والكره العميق لقيادة علي صالح السعدي، وأمله في إزاحتها عن القيادة.
حدث لقاء عفوي غير مقصود في حديقة قاعة الخلد 1963 بينه وبين علي صالح السعدي.
ففي حفل غنائي مصري تبرعت به إذاعة صوت العرب فرحًا بانقلاب فبراير 1963، أقيم على قاعة مسرح الخلد ببغداد، برعاية أمين سر القيادة القطرية نائب رئيس الوزراء وزير الإعلام علي صالح السعدي، وكنت أنا المذيع المكلف بنقل فقرات الحفل إذاعيا وتلفزيونيا وعريفه أيضا، وبعد أن قدمت المطرب المصري كارم محمود على ما أتذكر، توقعت أن لا ينتهي قبل ساعة على أقل تقدير، فأردت أن أستريح وأن أتمشى قليلا في الهواء الطلق خارج القاعة، فوجئت بصدام وأحمد طه لعزوز يقفان على جانب سلم المدخل الخارجي للقاعة، يتسكعان و يتفرجان على الداخلين والخارجين.
وقفت أسلم عليهما وأتبادل معهم الحديث، فإذا بعلي صالح السعدي يخرج من القاعة في تلك اللحظة مغادرا قبل انتهاء الحفل الذي يرعاه، شاهدنا وتركنا، وسار بضعة أمتار مع حراسه، ثم استدار وعاد إلينا مؤنبا ومعنفًا وقال "ماتستحون، هي هاي وقفة على طريق النسوان"
أما أنا فقد اعتذرت له وهممت بالعودة إلى داخل القاعة، أما صدام فقد تصدى بهدوء لأمين عام حزبه وقام بمفاجأته قائلا "تنقلع لو اهينك قدام حراسك".
ورغم ما كان معروفًا عن صرامة علي صالح السعدي وعنفه فقد صمت لبضع ثواني، أظنه حسبها مع نفسه، وتأكد من أن صدام قد يفعلها، ففضل تلافي الفضيحة، ثم سار وغادر المكان دون كلام.
بسبب هذه البغضاء المتبادلة بينه وبين قيادة علي صالح السعدي، كان طبيعيا ومنطقيا أن ينخرط في أي عمل ينال من قيادة حزب البعث التي أهملته، ونست بطولاته وتضحياته النادرة، وكانت النتيجة ان شارك بفعالية وحماس، في الانقلاب الذين لا زال البعثيون يعتبرونه خيانة، ويطلقون عليه اسم ردة تشرين والذي قام به عبد السلام محمد عارف والعسكريون البعثيون طاهر يحيى ورشيد مصلح وأحمد حسن البكر وحردان التكريتي ضد قيادة الحزب والحرس القومي.
وفي الثامن عشر من نوفمبر 1963، أمر حردان التكريتي بتعيين صدام حسين مشرفا سياسيا على الإذاعة وابن خاله عدنان خيرالله آمرا لقوة حماية الإذاعة، وراح هو وطارق عزيز الذي كان يعمل مترجما في القسم الإنجليزي في الإذاعة يكتبان النداءات لإذاعتها، يطالبان فيها باسم القيادة القومية للحزب، جموع البعثيين وأفراد الحرس القومي بالكف عن المقاومة والتعاون مع الحكم الجديد.
كان صدام يزوروني هو وعدنان خير الله في غرفة المذيعين يوميا تقريبا، ويقضيان معنا ساعات تعرف خلالها إلى بعض المذيعين، وكان يتطوع أحيانا في طلب الطعام للموجودين من مطعم قريب من الإذاعة، إلا أنه لم يمكث طويلا فجأة غاب ولم يعد نهائيا، بعد أن انقلب عبد السلام عارف على حردان التكريتي وأحمد حسن البكر، وطردهما من السلطة، الأمر الذي لم يترك لصدام خيارا سوى الهرب والاختباء.
بعد أن انقلب عبد السلام عارف على حزب البعث في نوفمبر 1963، خاف عبدالسلام من غدر أحمد حسن البكر، فأحاله على التقاعد، وبسبب شدة الرقابة الأمنية التي فرضها عليه اضطر البكر إلى إعلان اعتزاله السياسة والتفرغ لأموره العائلية، وقد نشرت برقية الاعتزال في الصحف العراقية كافة يومها، ولكن البكر لا يمكن أن يعتزل، ويستحيل أن يزهد بالسلطة، فقد عقد العزم على إعادة بناء الحزب من جديد، وجمع شمل البعثيين العسكريين والمدنيين، والتخطيط للانقلاب، ولكنه لا يستطيع وهو المحاصر بالرقابة المشددة، أن يتواصل مع رفاقه الآخرين، فاحتاج إلى وسيط من اهله ومن عشيرته، لا تشك أجهزة الأمن حين يزوره في داره من حين إلى حين، ليحمل رسائله الشفهية إلى البعثيين المطلوبين، لكن ذلك الشخص كان خير الله طلفاح اولًا، ثم ابن أخته صدام حسين، وهذا ما جعل صدام يربط مسيرته الحزبية والسياسية والحياتية بجناح أحمد حسن البكر، وحردان التكريتي، والطاهر يحيى، وحماد شهاب، ورشيد مصلح حتى النهاية.
ثم شاءت الظروف المواتية، وساعد قائد الحرس الجمهوري إبراهيم الداوود ومعاون رئيس الاستخبارات العسكرية عبدالرزاق النايف وآمر الدبابات القصر الجمهوري سعدون غيدان، على أن ينجح هذا الجناح في الانقلاب على الرئيس المسالم البسيط عبد الرحمن محمد عارف، ويتمكن من العودة إلى السلطة بعد خمس سنوات، ليبدأ صدام حسين مسيرته نحو الصعود.
إن جميع الأمور في الدنيا نسبيه، فقد كان الحكام جميعهم عبر التاريخ الطويل، يشرعنون مجازرهم ومقابرهم الجماعية دائما بحماية الوطن والدين وسلطة القانون، كما كان معارضوهم، وهم الذين يقتلون جنود وضباطه باسم حماية الوطن والدين وسلطة القانون أيضا.
وقلنا سابقا إن في داخل صدام حسين شخصية الريفي المسالم الوديع، وفيه أيضا شخصية المتمرد العنيف القاسي، المتأهب دائما للفتك بأعدائه ومعارضيه دون تردد، وهنا نسأل من الذي أيقظ في داخل صدام حسين، شخصية الديكتاتور المصمم على مكاسرة معارضيه، ومنعهم من سلب السلطة منه وهل كانت سخونة ديكتاتوريته تتزايد بقدر ما تتزايد به نشاطات أعدائه الداخليين، وأعدائه الخارجيين؟
وأضع السؤال بصيغة أخرى: هل إن أفعال المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الدعوة هي التي جعلت من صدام مشروع ديكتاتور؟ أم إنه كان ديكتاتورا من الولادة، ثم أعطته السلطة والثروة فرصة البطش بخصومه، ثم ساهم نفاق بطانته، وهتاف الملايين بحياته في رفع مناسيب هذه دكتاتورية إلى ما تسبب خراب البيوت، ويقال في هذا المجال إن تعظيم صدام لم يكن سوى خلل نفسي لدى الذين عظموه، والسؤال الآخر المهم، هل كان في الإمكان أن يتصالح الصدام مع معارضيه العراقيين، ويبطل مفعول التغلغل الخارجي العدواني في شؤون العراقيين فيريح ويستريح؟
وصيغة أخرى من السؤال هل كان التدخل الخارجي في شؤون المعارضة العراقية السابقة مسؤولا عن حقد صدام على طائفة معينة، وعلى قومية معينة؟ أم إنه كان طائفيا وعنصريا قوميًا من طفولته، ولكنه جعل ارتباط أحزاب المعارضة مع إيران وأمريكا وإسرائيل حجة وذريعة لممارسة طائفيته وعنصريته المغرضة؟
الله أعلم قرأت الكثير حول صدام، لكن الأهم فيما قرأته هو ما قاله علماء التحليل النفسي والاجتماعي بعد رحيله المدوي على يد حزب الدعوة وأمريكا وإيران، حين اعتبروه ديكتاتورا ناجحا، أسقطه جبروته وشجاعته وسطوته في المنطقة.
-----------------------------------
نقلا عن صفحة زيد بنيامين على موقع X