علم النحو
لما جاء الإسلام وفارق العرب الحجاز وخالطوا العجم، تغيرت مَلَكَتُهم اللسانية بما أَلْقَى إليها السمعُ من مُخالفات المستعربين -والسمع أبو الملكات اللسانية- فخشِي أهل الحُلوم منهم أن تَفسُد تلك الملكة رأسا، ويطولَ العهد بها فيَنغلِق القرآن والحديث على الفُهُوم، فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين مُطَّرِدةً شِبهَ الكليات والقواعد، يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ويُلحقون الأشباه بالأشباه. ثم رأوا تغيُّر الدلالة بتغيّر حركات هذه الكلمات فاصطلحوا على تسمية ذلك التغيّر إعرابا، وتسمية الموجب لذلك التغيّر عاملا.
وصارت كلها اصطلاحات خاصة بهم فقيّدوها بالكتاب وجعلوها صناعة لهم مخصوصة، واصطلحوا على تسميتها بعلم النحو.
علم اللغة
هذا العلم هو بيان الموضوعات اللغوية؛ وذلك أنه لما فسدت ملكة اللسان العربي في الحركات المُسَمّاة عند أهل النحو بالإعراب، واستُنبطت القوانين لحفظها كما قلنا -ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم حتى تأدى الفساد إلى موضوعات الألفاظ، فاستُعمِل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم مَيْلا مع هُجْنة المستعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية- احتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتابة والتدوين خشية الدُّروس وما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن والحديث، فشمَّر كثير من أئمة اللسان لذلك وأمْلَوْا فيه الدواوين.
علم البيان
هذا العلم حادث في المِلّة بعد علم العربية واللغة، وهو من العلوم اللسانية لأنه متعلق بالألفاظ وما تفيده؛ ذلك أن الأمور التي يقصد المتكلم بها إفادة السامع من كلامه إما تصوُّر مفرداتٍ تُسند ويُسند إليها ويُفضي بعضها إلى بعض، ويُدَلّ عليها بالمفردات من الأسماء والأفعال والحروف، وإما تمييز المسند من المسند إليه، ويُدَل عليه بتغيّر الحركات من الإعراب وأبنية الكلمات، وهذه كلها هي صناعة النحو.
ويبقى من الأمور المُكْتَنَفَةِ بالواقعات المحتاجة للدلالة أحوالُ المتخاطبين أو الفاعلين وما يقتضيه حال الفعل... فإن كلام العرب واسع ولكل مقام عندهم مقال يختص به بعد كمال الإعراب والإبانة.
واعلم أن ثمرة هذا الفن إنما هي في فهم الإعجاز من القرآن، لأن إعجازه في وفاء الدلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال؛ منطوقة ًومفهومةً، وهي أعلى مراتبِ الكمال، مع الكلام فيما يختص بالألفاظ في انتقائها وجودة رصفها وتركيبها. وهذا هو الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن إدراكه، وإنما يُدرِِك بعضَ الشيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي وحصول ملكته، فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه، فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوه من مبلّغه أعلى مقاما في ذلك، لأنهم فرسان الكلام وجهابذته، والذوق عندهم موجود بأوفر ما يكون وأصحِّه.
علم الأدب
هذا العلم لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور؛ على أساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الملكة من شعر عالي الطبقة، وسجع متساوٍ في الإجادة، ومسائلَ من اللغة والنحو مبثوثةٍ أثناء ذلك، متفرقةٍ، يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب يفهم به ما يقع في أشعارهم منها. وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة.
والمقصود بذلك كله ألا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبيهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفّحه، لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه.
ثم إنهم إذا أرادوا حدّ هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف.
وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها.
وكان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن، وكان الكتّاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصا على تحصيل أساليب الشعر وفنونه، فلم يكن انتحاله قادحا في العدالة والمروءة.
وقد ألف القاضي أبو الفرج الأصبهاني كتاب الأغاني جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولتهم. وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي اختارها المغنون للرشيد فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه.
ولعمري إنه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يُعْدَل به كتاب في ذلك فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها.
* المصدر: مقدمة ابن خلدون
تحقيق عبد الواحد وافي، طبعة دار نهضة مصر
3/ 1128-1140 (بحذف واختصار وتصرف).