ايلاف:صدرت من دار جدار للثقافة والنشر رواية quot;الرواقيquot; للشاعر السعودي حامد بن عقيل، الرواية التي جاءت في 115 صفحة من القطع المتوسط هي العمل السردي الأول لابن عقيل الذي سبق أن صدر له ثلاثة دواوين شعرية وثلاثة كتب نقدية، وسيرة افتراضية توزعت في ثلاثة كتب هي على التوالي (مسيح ndash; سبينوزا ndash; أماديوس). صمم غلاف quot;الرواقيquot; غيلان الرافدين، وحمل غلافها لوحة لتمثال يُظهر صورة جانبية لوجه الفيلسوف اليوناني quot;زينونquot;.
وفيما يلي جزء من الرواية:
مضى أسبوعان على آخر لقاء بيني وبين الناشر الذي اتصل يطلب أن نتغدى من الغد في مكان عام لكنني اعتذرتُ ودعوته لزيارتي غداً مساءً. أسبوعان، لا بد أن كتابي قد تخلّق. قضيتُ هذين الأسبوعين في مشاهدة الأفلام وزيارة الأصدقاء والجلوس في دريم لاند، والاستماع لذات الأسطونات الموسيقية، فقط حصلتُ من أحد الأصدقاء على اسطوانة ضمت معزوفتين للفرنسي موريس جار، إحداها كانت موسيقى دكتور جيفاغو، أما الأخرى فأظنني سمعتها في زمن لم يعد معي منه إلا قصاصات ذاكرة مجهولة من عصر بالغ القِدم.
يُفترض الليلة أن أنام مبكراً لا لشيء إلا لرغبتي في الحفاظ على برنامجي الذي بدأتُ أتعوده؛ لكنني بعد اتصال الناشر غيرتُ الخطة، لا بد من احتفالٍ خاص وصغير قبل رؤية الكتاب العاشر. يا الله، الكتاب العاشر، quot;الرواقيquot;!. لماذا كلما اتسعت دائرتي تُهتُ وكلما ضاقتْ اختنقت، لماذا أفكر أن كل كتاب أكتبه لا بد أن يقفز على سابقه وأن يتجاوزه دون أن أفكر بكتابة ما يمثلني الآن، لماذا عليَّ أن أواصل البوحَ في وسطٍ متكتّم. وضعتُ قطعة ثلج في فمي واسترخيت على كرسي خشبي يمنحني القدرة على الغياب في هواجسي. أنا الذي عاش عمره لم يفهم، أنا الذي حاول الفهم دون أدنى فكرة حول ثِقل وعيه الذي كلما ازداد نغّص عليه حياته.
ملأتُ كأساً من نبيذي، ووضعتُه أمامي على الطاولة ورحتُ أتأمله. الكاتب كالمغامر الذي حين تنتهي مغامرته بمأساة يلجأ إلى الله، ولكنه يكون قد تأخر جدّاً. ماذا؟، هل يستطيع لصوص النار كتابة كل شيء في كتاب، أين هو هذا الكتاب الجامع؟؛ الماضي والحاضر والفرح والحزن والقريب والبعيد وكل الجهات وجميع الأبعاد والقوة والضعف، كتاب يعتسف اللغة لصالحها هي وليس لغاية الكاتب؟. كأن هذه الليلة تعيدني إلى فرحي وخوفي الذين اختبرتهما عند أول كتاب. اعتقدتُ فقط أن السبب عائدٌ لكونه كتابي الأول، لكن، وكمن يصعدُ نحو المجهول، مع كل كتاب يزداد الخوف ويتعاظم الفرح. الفرح؟، نعم، ولكن بعد أن صار صيغة تشبه الشفقة: quot;أنا هنا، لا زلتُ أعيش، لازلتُ أحلم، لا زلتُ أكتب، لا زلتُ أكتبquot;!. أما الخوف فإنه الصيغة الأكثر قرباً للرهاب النفسي الذي يفوق الوصف. الكاتب كمن يقوم بتغسيل الموتى، يستطيع أن يجيد تغسيل الميت وأن يبلغ أقصى درجات الإجادة في ممارسة صنعته لكنه لا يستطيع أن يضمن له الجنة. حين لا يعود الكتاب بين يديك، حين تراه في أيدي الناس فإنك وحدك من يرى جثتك التي قمتَ بسلخها أنتَ نفسك دون سواك.
شربتُ نصف كأسي، ورحتُ أحدّق في نصفه الباقي. لا شيء سوى الدخان فاصلاً بين الأشياء حين أفرّ من قلقي نحو حافة الكتابة، لأجد أني أطل بتوق من الهاوية وأقفز. quot;الرواقيquot;، قفزتي العاشرة التي أردتُ أن أقول من خلالها، تماماً كالذي أردتُ قوله في المرات التسع الماضية، أنا لا أكتب لإصلاح العالم ولكنني أكتب لترميم ذاتي الغارقة في العَتمة والوحدة والقلق. قفزتي العاشرة التي أريد أن أنسى من خلالها كل أفكار علم النفس وعلم الاجتماع ووصايا الزمن البائد ومواعظ الآن حول ما سيأتي ونُذرُ ما سيأتي حول كَدر الآن. القفزة التي أريدُ أن تكون في هواء لم يلوثه أحد بأفكار مشوشة كأفكار شوبنهاور ونيتشة التي صنعت هتلر، أو الإرث العربي الذي صنع صدام حسين، أو كأي من أفكار الفلاسفة الذين توهموا أنهم عرفوا الحقيقة فكانت معرفتهم وبالاً. لا أدري لماذا تذكرتُ فجأة فكرة كازنتزاكيس التي أوردها على لسان زوربا حول المثقف حين وصفه بأنه مجرد فأر كُتب. هل لأن الفأر هو الذي خرَّب سد مأرب. بطريقة ما؛ ربما لم تكن الثقافة تعني شيئاً سوى الخراب.
شربتُ ما بقي من كأسي، ثم قمتُ إلى جهاز الدي في دي وأدرتُه، كانت فيروز تهتف: quot;حبك يا لبنانquot;، كنتُ أسمعها وأنا متجه نحو الثلاجة لأتناول قطعة ثلج وأضعها في فمي: quot;وإذا إنتَ بتتركني يا أغلى الأحباب، الدنيا بترجع كذبه وتاج الأرض ترابquot;، أنا الذي تركتُ وطني لأنني لم أرد الاعتراف بأن مريم صارت بعيداً، كنتُ أظنها ستتبعني إلى الشمال، إلى هناك في مدينة لا يحتاج الحب فيها إلى مواعظ ووصايا وتجارب يتطوع من فشلوا في توعدك بذات الويل والثبور الذي حصدوه. ظننتُها ستتبعني، رغماً عن بؤس محيطها إلى مدينة كبيروت التي اكتشفتُ منذ وضعتُ قدمي على أول رصيف فيها مرارة أنها ليست السعودية. الجنة التي لا تعني لطفولتي شيئاً ولا تحمل رائحة أمي لا تكون جنّةً أبداً، بينما يمكن أن يكون الجحيم مقبولاً، فقط لأنه وطني.
- آخر تحديث :
التعليقات