مشاريع البنية التحتية بين العدالة والاستعراض

14 اغسطس 2023
جزء معتبر من إنفاق البنية التحتية غرضه الحقيقي الاستعراض أكثر منه التطوير (فرانس برس)
+ الخط -

منذ عام وبضعة شهور تقريباً، وتحديداً بعد أول جرعة تعويم بعام 2022 الماضي، تداولت شبكات التواصل الاجتماعي تغريدة لطبيب نفسي مصري يقول فيها "أنا عارف الدولار والغلاء والحاجات دي، بس امبارح روحت من التجمع لأول الصحراوي في نص ساعة بعد توسيعات الدائري ومحور المنيب، هل التمن يساوي؟ في رأيي آه"، مثيرة كثيراً من التعجب والاستهجان، لكن -الأهم- كاشفة أيضاً عن العديد من الدلالات.

أما أولى الدلالات فهي الانحيازات الكامنة في سياسة تخصيص الإنفاق العام، حتى فيما يُصنّف رسمياً ويُصدّر دعائياً كاستثمارات عامة تنموية للصالح العام بمجموعه، فيما هي كمنافع حقيقية صافية تنتهي عملياً لفائدة فئات محدودة أكثر من غيرها؛ حتى إنها لا ترى التكاليف والخسائر الناتجة عنها تكافئ مكاسبها منها، تلك الاستثمارات التي جرى تمويلها من الإيرادات العامة التي موّلها الشعب كله، بل وأغلبيته الفقيرة بالأساس، في ظل منظومة ضريبية مُنحازة للأغنياء، سواءً بغلبة الضرائب غير المباشرة عليها بالعموم، أو بمحدودية التصاعدية وغلبة التهرّب في جانب الضرائب المباشرة منها.

فيما الدلالة الثانية هي ما يبدو من فاعلية دعائية لهذا النوع من مشاريع البنية التحتية، حتى عندما تكون مُكلّفة مالياً واقتصادياً في بلد فقير يعاني ضغوطاً مادية حادة، يُفترض معها اختلاف أولوياته التنموية وتخصيصاته الإنفاقية، خصوصاً مع كون جانب معتبر من تمويلها عبارة عن قروض ومديونية متراكمة خطيرة الآثار على مستقبل البلاد والعباد.

بينما تلفت الدلالة الثالثة نظرنا للتناقض في التزامن الغريب ما بين التحسّن الشديد في بعض أجزاء البنى التحتية للبلد والتدهور الحاد في أوضاعها الاقتصادية عموماً؛ فبينما يُفترض أن يكون الأول تعبيراً عن تحسّن أوضاع البلد ورفاهها الاقتصادي والاجتماعي، نجد العكس بالضبط هو ما يحدث، وبدلاً من استقرار الأوضاع الاقتصادية للبلد ولأغلب الشعب على الأقل، نجدها تتراجع بشدة.

انحيازات الإنفاق العام

يُنسب لديفيد ريكاردو عالم الاقتصاد الإنكليزي، والمُنظّر المؤسّس للمدرسة الكلاسيكية بعد رائدها آدم سميث، قول مشهور بأن التوزيع هو القضية الأساسية في الاقتصاد السياسي؛ ولهذا لا يمكن لتناول الأخير لأية قضية أن يخلو أبداً من تحليل لمنطق توزيع المنافع والتكاليف واستكشاف للانحيازات الكامنة وراءه، فإذا نظرنا في الانحياز المُتضمّن في مشاريع البنية التحتية من هذا النوع؛ نجده يتجلّى في ثلاثة أبعاد متشابكة في السياق المصري مؤخراً.

أولاً من جهة مستهلكيها، تغلب الاستهلاكية على جزء معتبر من هذا الاستثمار مع سيطرة الخدمات على الاقتصاد ومركزية الجيوب الصناعية المحدودة بالبلد؛ بما يؤدي لمحدودية الاستفادة الإنتاجية منها وضعف فرص العمل الناشئة عنها؛ بشكل يجعلها في النهاية مجرد تيسيرات استهلاكية لحياة وانتقالات فئات محدودة تعيش في الضواحي الجديدة وتمتلك الوقت والملاءة المالية للسفر خارج المراكز الحضرية التقليدية عموماً، ومع عدم اعتراضنا على مشروعية ذلك من الوجهة المجردة، لكنه لا يمثل أولوية حالّة في أوضاعنا الحالية الصعبة عموماً، وفي ظل تدهور المرافق والخدمات في المراكز الحضرية التي يعاني أغلبية المواطنين الفقراء الأمرّين منها يومياً.

يتكامل مع ذلك -ثانياً- من جهة مموّليها، اختلال وتراجعية الهيكل الضريبي، أي غلبة تمويله من الطبقات المتوسطة والفقيرة، من خلال الضرائب غير المباشرة بالخصوص؛ ما يؤدي لانحياز لأعلى في توزيع صافي المنافع-التكاليف بين المواطنين، أي اختلال في هياكل المنافع والأعباء في غير صالح الأغلبية الفقيرة، التي تتحمّل أعباءً ضريبية أكبر مما تحوزه من منافع؛ بالنظر لمحدودية استفادتها من هذا النوع من التخصيص؛ لتحقيق منافع تحوزها الأقلية المُستفيدة منه على ما سلف ذكره، ولا يغيّر من ذلك تحصيل رسوم أو كارتة؛ كونها يُعاد تخصيصها بذات الطريقة ولنفس نوعية المشروعات، حتى بفرض كونها تعود للموازنة العامة للدولة، خلافاً لما يشيع البعض.

أما الأخطر -ثالثاً- من جهة منتجيها، فهو عدم انفصال هذا النوع من الإنفاق عن تكوّن لوبيات متداخلة من البيروقراطية ورأس المال الخاص، مُتمركزة في القطاعات ذات الصلة كالتشييد والعقار ..إلخ، تستفيد من توجيه الإنفاق العام لهذا الوجهة، بغض النظر عن مدى سلامة أساليب توزيع المشاريع فيما بينها؛ فما يُهم هنا هو بروز ميل لتضخّم إجمالي التخصيصات الإنفاقية المُوجهة لهذا النوع من المشروعات بالعموم؛ كنتيجة لتكوّن شبكات مصالح نافذة تضغط لاستمرارها بنفس مستواها على الأقل، بعيداً عن حسابات الكفاءة الداخلية والخارجية، أي بغض النظر عن مدى جدواها الاقتصادية أو أولويتها الاجتماعية؛ ما يعني انطلاق تخصيصات جانب من الإنفاق العام من مصالح بيروقراطية وليس المصلحة الاجتماعية العامة؛ فيمثل الجزء غير الضروري منه إهداراً للموارد، وتحويلاً لها من العام إلى الخاص، كما يتضمّن بالطبع قدراً من الفساد.

الاستعراض التنموي

يقدم هذا الجانب الآخر تفسيراً ماكروياً مُكمّلاً للصورة، يتكامل مع الدوافع الميكروية المُحرّكة للوبيات البيروقراطية ورأس المال النافذة (من جهة الإنتاج)، وتوزيع المنافع المُنحاز لأعلى للفئات ذات الحظوة (من جهة الاستهلاك)، في تفسير تضخّم هذا النوع من الإنفاق العام، وهو دوافع السلطة السياسية نفسها، التي لا يمكن اختزالها بلا شك في مجرد شراء الولاءات أو ترضيات ذوي الحظوة ..إلخ، وهو المُتعلق بحاجات المشروعية السياسية بأبعادها التنموية والدعائية، تلك المشروعية المأزومة في كافة الدول التي تعاني إشكالية مُزدوجة في التمثيل السياسي والفاعلية التنموية والإدارية.

ومن هذا الجانب فللإنفاق على البنية التحتية كسياسة دعاية ورأسمال سياسي ميراث تاريخي طويل، أخذ صورته الكاملة لأول مرة على أيدي النازيين قبل الحرب العالمية الثانية، بل ويعتبره البعض أحد الروافع الأساسية لتعاظم شعبية هتلر وتعزيز استقرار نظامه، كذا أحد التطبيقات الأوّلية المُبكرة للسياسات الكينزية في مواجهة الركود.

والدعوى المعتادة لهذه الأنظمة، ومعها المنظمات الاقتصادية الدولية الكبرى، عن هذا النوع من المشروعات هو أنها تخفض تكاليف التنفيذ والنقل؛ فتمهّد الأرضية للإنتاج وتجذب الاستثمار المحلي والأجنبي؛ فتزيد الإنتاجية العامة للاقتصاد وتخلق فرص عمل وتعزّز الاستثمارات اللاحقة بتأثير المُضاعف الكينزي والآثار الخارجية وتوسيع الأسواق رأسياً وأفقياً .. إلخ؛ بما يرفع في النهاية النمو الاقتصادي ومستويات المعيشة.

علماً بأنه خلافاً لهذه الدعوى العامة، توجد على النقيض أطروحات مُضادة تتراوح ما بين محدودية الأثر الإيجابي لهذه المشروعات على الإنتاجية والنمو، وما بين الأثر السلبي الصافي في حالات تحوّلها لمجرد استهلاك صرف بعدم نجاحها في تحقيق رهانها الأساس بجذب استثمار مستقل جديد من خارج دورة تدفق الموارد-النقد العادية القائمة فعليًا في الاقتصاد، وتعزيز النمو به بالارتقاب به من دورة إعادة الإنتاج البسيط إلى إعادة الإنتاج المُوسّع.

علماً أن حتى النوع الأول من هذه الأطروحات، الأكثر تفاؤلاً بهذه المشروعات، لم يُبنَ حصراً على دراسة اقتصادات العالم الثالث راكدة الإنتاج ضعيفة التصنيع، بل إن منه ما تناول اقتصادات متقدمة، لعلّ أهمها دراسة المؤرخ الاقتصادي البارز روبرت فوجل عن دور السكك الحديدية في النمو الاقتصادي بالولايات المتحدة الأميركية، والتي خالف فيها الرأي الشائع بدورها الحاسم، مؤكداً بحسابات القياس والتقدير الكمّيين المحدودية النسبية لذلك الدور مُقارنة بالتصوّرات الغالبة عنه.

لكن الغريب أنه رغم هذا الخلاف حول "مدى" الجدوى الاقتصادية، يكاد لا يوجد خلاف تقريباً على الفائدة السياسية لهذا النوع من المشروعات؛ فرمزيتها الظاهرة وملموسيتها المباشرة تجعل لها تأثيراً فورياً، وإن كان مؤقتاً بالطبع، على شعبية الأنظمة السياسية، وما تناله بفضلها من أصوات انتخابية ودعم شعبي، لا يرتبطان بشكل واضح بالمنافع الاقتصادية لهذه المشروعات (التي تتأخر زمنياً بطبيعة الحال).

وحتى في الحالة النازية، التي دُرست جيدًا كنموذج بارز لتنفيذ هذه السياسة، كان الأثر الاقتصادي أقل بكثير من الأثر السياسي، الأمر الذي لا يمكن تفسيره سوى بتأثير الدعاية السياسية التي عملت على تضخيم المنافع الفعلية والمحتملة، كذا وهو الأهم، بتوظيف الدعاية الحكومية لهذه المشروعات للتأكيد على فاعلية السلطة وكفاءتها العامة بغض النظر عن المنافع الاقتصادية المباشرة.

لا نعجب لذلك من خطاب "الإنجازات" الكلاسيكي الذي أكسب الكلمة سمعةً سيئة في مصر؛ بالفجوة الهائلة ما بين المشروعات القومية المليارية والواقع اليومي المتدهور باستمرار طوال العقود الماضية، وربما كان لدينا في مصر نوع من الميراث الخاص، بمحاولة كافة الرؤساء اللاحقين على جمال عبد الناصر تقليده في بناء الشعبية بالإنجاز، دونما نجاح بالطبع؛ لكون إنجازاته على الأقل كانت لمشروعات ذات ضرورة وجدوى حقيقية كالسد العالي وغيره، ناهيك عن تحقّقها في سياق من العدالة الاجتماعية النسبية، وكونها كانت ضمن محاولات تخطيط شامل ومشروع قومي عام.

وهكذا، فبخلاف بعض مشروعات البنية التحتية المفيدة حقاً، كمترو الأنفاق وشبكات الطرق والمياه والصرف الصحي في المراكز الحضرية الأساسية للبلد، والتي تفيد الغالبية العظمى من الشعب فعلاً، أصبح جزء معتبر من إنفاق البنية التحتية غرضه الحقيقي الاستعراض التنموي أكثر منه التطوير الاستراتيجي، خصوصًا إذا قُيّم حجمه الكلي وتوزيعه النسبي بمُعايير الجدوى الاقتصادية والأولويات الاجتماعية.

عن الجدوى والزمن!

لا يعني قولنا ذلك عدم أهمية البنية التحتية بالمُطلق؛ فهذا مما لا يقوله عاقل، بل فقط نؤكد على الحاجة للترشيد الكمّي والكيفي للإنفاق عليها بالتزام معايير تجمع ما بين الجدوى والملاءمة والأولويات، وتراعي التداخل فيما بينها جميعاً.

فحتى الجدوى الاقتصادية تكتسب قدراً من معناها ضمن ملاءمة زمنية وأولوية اجتماعية؛ فليس كل ما هو مُجد اقتصادياً ملائم اجتماعياً، ولا حكمة في جدوى اقتصادية طويلة الأجل مُنفصلة عن السياق الزمني المأزوم ماليًا، فلا تُراعى المواءمة بين عوائد الاستثمار واستحقاقات التمويل؛ لتنتهي لبيع أصول قيّمة ومنتجة فعلياً لتغطية تكاليف تمويل أصول لا يوجد ما يضمن أن تكون أكثر جودة، ناهيك بالطبع عن الموازنة ما بين المنافع طويلة الأجل والتكاليف قصيرة الأجل، التي تُبرّر بها التضحيات المطلوبة من أجيال كاملة اليوم؛ فلا يُعقل أن تنخفض مستويات معيشة الأجيال الحالية بما يصل بأبسط التقديرات إلى نحو 50% وأكثر خلال عقد واحد، فقط لتمويل مشروعات بنية تحتية، تشير التقديرات الكمّية عن العقدين الماضيين إلى المحدودية الشديدة لعوائدها، فزيادة بمقدار 1% في الطرق والسكك الحديدية والاتصالات مثالاً، لم تُزِد نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي سوى بنسب 0.03% و0.02% و0.02% على التوالي.

لا عجب مما بدأ يبرز على السطح من ضجر وتبرّم قطاعات معتبرة من المصريين من هذه المشروعات، والتي وصل الإنفاق العام عليها أوائل العام الماضي إلى حوالي 400 مليار دولار، بما يعادل 6.2 تريليونات جنيه تقريباً خلال سبعة أعوام فقط وفق التقديرات الرسمية، نما معها الاستثمار الحكومي من 8.4% إلى 19.5% من الموازنة العامة خلال الفترة 2014-2021، فيما ظل الاقتصاد يعاني ركوداً مُزمناً، تدهورت معه العملة الوطنية وارتفعت الأسعار .. إلخ؛ وانخفض متوسط الأجور الشهرية للمصريين من 456 إلى 240 دولارا خلال الفترة 2015-2021 (حسب بيانات موقع شركة معلومات الأعمال CEIC)، وتراوحت تقديراتها ما بين 130 و200 دولار عام 2023 (حسب بيانات موقع WageCentre)، بما تخفيه تلك المتوسطات من تدهور شديد لأجور أغلب القوة العاملة؛ بشمولها كمتوسطات إحصائيا عاديا لأعلى الأجور بالبلد.

هذه المحدودية الشديدة في العوائد على المواطن العادي، إن لم تكن السلبية واقعياً في الأجل المنظور على الأقل، تؤكد ما نراه عملياً من عدم نجاح جزء معتبر من الإنفاق العام على البنية التحتية في مصر في تحقيق رهاناته الاقتصادية بجذب الاستثمار المحلي والأجنبي ورواج الاقتصاد؛ بما يعنيه ذلك من تحوّله لمجرد إنفاق استهلاكي لخدمة فئات محدودة، ويرجّح ميله أكثر لأن يصبح أساساً قناة لتحويل الموارد العامة لبعض اللوبيات القوية، وينتهي لمجرد استعراض تنموي دعائي لخدمة خطاب الإنجازات.

المساهمون