الطبقات الخمس لأزمة سعر الدولار في مصر

02 مارس 2024
دخلت مصر نفقاً مظلماً في العقد الأخير بالاقتراض الخارجي بشكل مُفرط (Getty)
+ الخط -

قد تعطينا أخبار الصفقات الأخيرة من رأس الحكمة ورأس الجميلة إلى آخر الرؤوس قبلات حياة مؤقتة لإنقاذ الجنيه المصري من التدهور المستمر، لكنها بحد ذاتها لن تعالج المشكلات الجوهرية العديدة التي تنتج أرضية ووضع التدهور ذاته. 

لهذا يستدعي الأمر نظرة منهجية مُوجزة في فرز وترتيب تلك المشكلات لهدفين، أولهما معرفة القاعدي والعَرضي والعاجل والآجل من تلك المشكلات في كل من الأجلين القصير والطويل، وثانيهما التوصيف الصحيح للمفصل اللحظي الأهم للأزمة، أو الحلقة الأساسية الحالية في سلسلة المشكلات المتصلة بمُجمل الأزمة؛ لاستكشاف ما تستدعيه من حلول عاجلة.

فلا يمكن لعلاج أن يكون ناجعاً دون تشخيص سليم ابتداءً للأزمة، خصوصًا عندما تكون أزمة متعددة المستويات والأبعاد، كما هو حال أزمة سعر الصرف الذي يمثل تجسيداً أخيراً ونتاجاً نهائياً لمُجمل أداء الاقتصاد في المدى الطويل، حتى وإن شوّشته السياسات واضطرابات الأسواق وانتهازية المضاربات في بعض الأحيان.

وبشكل عام يمكن القول بوجود خمس طبقات لأزمة سعر الصرف في أي اقتصاد، أولى هذه الطبقات هي "الطبقة الهيكلية" التي تتعلّق بالهيكل الإنتاجي والتكوين القطاعي للاقتصاد.

فيما الثانية "الطبقة المؤسسية" التي تمثّل إطار العمل الاجتماعي والقانوني للاقتصاد ومؤسساته الإدارية والسياسية بما ينجم عنها جميعاً من منظومة حوافز فردية وجماعية.

أما الثالثة فهى "الطبقة التجارية" التي تعكس صافي تعاملات الاقتصاد السلعية والخدمية مع الاقتصادات الأخرى سلباً وإيجاباً، تليها الرابعة، "الطبقة المالية"، التي تمثل الوضع المالي المباشر للاقتصاد في علاقاته داخلياً وخارجياً على صعيد حركة رؤوس الأموال.

أما الخامسة والأخيرة فهي "الطبقة السيكولوجية"، التي تتجلّى في النشاط السوقي الفردي المباشر عرضاً وطلباً على العملة كأصل مالي مقابل بدائله كمخازن قيمة، على أساس التوقعات متفائلةً كانت أم متشائمة.

ولا شك أنها جميعها متفاعلة مترابطة، لكن الفوارق النوعية بينها واختلاف النطاقات الزمنية لتأثيرها تحتّم التمييز فيما بينها؛ بما يستتبعه ذلك من اختلاف مناطق (جمع منطق) تحليلها وآليات التعامل معها بالضرورة.

كما أن طرائق وسياقات التفاعل فيما بينها كثيراً ما تغيّر نطاقات تأثيرها وتراتب أولوياتها اللحظية باختلاف الظروف والسياقات.

موقف
التحديثات الحية

وتمثّل الطبقة الأولى، الهيكلية، الطبقة الأعمق أثراً والأطول آجلاً، والتي لا يمكن تغييرها أو تعديلها نهائياً في الأجل القصير، ولا جذرياً في الأجل المتوسط، لكنها الأكثر قاعدية وأهمية في الأجل الطويل؛ حيث تمثل الأساس المكين لكامل أداء الاقتصاد على كافة الأصعدة؛ وتوفّر إمكانات حل مشكلاته بسهولة نسبياً كلما اتسمت بالقوة والديناميكية، فضلاً عن إمكانات الثراء والمرونة كلما امتلكت القدرة على النمو والتطور المستمرين.

بل إنها لتمثل أساس الموقع الاقتصادي والجيوتاريخي للدولة ضمن تقسيم العمل الدولي والنظام العالمي عمومًا، لتكون طَرفية تابعة إذا افتقدت التصنيع المستقل المتطور واعتمدت بالأساس على قطاعات الإنتاج الأوّلي والاعتمادي والهامشي من زراعة واستخراج وخدمات، التي تتسمّ بالتخلف الإنتاجي وضعف القيمة المُضافة، أو الاعتمادية المفرطة على ما سواها من قطاعات صناعية ببلدان أخرى عادةً.

وبقطاع صناعة تحويلية محدود نوعياً لا يتجاوز 18% من الناتج الإجمالي، وفجوة غذائية ضخمة -تصل لنصف الاحتياجات تقريبًا في بعض المحاصيل المهمة- تعكس ضعف القطاع الزراعي، وقطاع خدمات يشغل نصف الناتج المحلي الإجمالي تقريباً؛ تعاني مصر من هيكل اقتصادي متخلّف إنتاجياً كقدرة كمّية، ومختلّ تكوينياً بانفجار خدمي وريعي كتوجّه كيفي؛ ما يضعف قدرته على النمو والتطوّر بأشمل معانيهما، كما يوفّر أرضية للعجز التجاري المزمن.

فإذا انتقلنا للطبقة الثانية، المؤسسية، فالاقتصاد المصري مُثقل، على ما أشرنا في عدة مقالات سابقة، بسرطان بيروقراطي وفيل محاسيبي، معكوسين في درجة عالية من الفساد المؤسسي؛ بما يؤدي بمجموعه لإنهاك كامل ديناميات عمله وحَرْف موارده عن أفضل الاستخدامات بتشويه كافة عمليات التخصيص والتوزيع، بل والدفع جُملةً لطرد وتثبيط المبادرات الفردية والجماعية المحلية، فضلاً عن الاستثمار الأجنبي الجاد.

كما تشمل هذه الطبقة المؤسسية الضوابط القانونية والإدارية للسياسة العامة والمالية الحكومية والنقد الوطني، فهي تحدّد معايير الاقتراض الحكومي داخلياً وخارجياً، من جهة مدى خضوعه للمراقبة والمراجعة البرلمانية والشعبية، بما يقيّد الاقتراض الخارجي في حدود القدرة الاستيعابية للاقتصاد وعلى ضوء مدى جدواه المالية ومردوديته الاقتصادية من جهتيّ التوظيف والشروط.

كذا تحدّد مدى استقلالية البنك المركزي في مواجهة الحكومة؛ ومن ثم قيامه بأمانة حفظ القوة الشرائية للمواطنين؛ بالحفاظ على العملة الوطنية وعدم ممالأة الحكومة على حسابهم، بالإسراف في طباعة النقد والتمويل التضخمي غير المسؤول.

وتنعكس عن الطبقتين المذكورتين الطبقة الثالثة، التجارية، التي تعكس صافي علاقات الاقتصاد الوطني بالاقتصاد العالمي، والتي يلخّصها ميزانه التجاري والجاري الأعمّ، الذي يشمل صادراته ووارداته من السلع والخدمات.

ونقول تنعكس لأن أداء هذه الطبقة يمثل في نهاية المطاف محصلة قدرة الاقتصاد الإنتاجية (التي تقوم على رأسماله المادي والتقني وتنظيمه المؤسسي)، كمّياً من جهة تجاوز إنتاجه لاستهلاكه أو العكس، وكيفياً من جهة نوعية ما يُنتج ويصدّر بما يحتويه من قيمة مُضافة مقارنةً بنوعية ما يستهلك ويستورد بما يحتويه من قيمة مُضافة مناظرة.

وعلى هذا الصعيد تحتل مصر موقفًا طرفياً تابعًا متخلفاً من النظام الاقتصادي العالمي، فهى أولاً تستهلك أكثر مما تنتج بسبب ضعف قاعدتها الإنتاجية وسوء تنظيمها المؤسسي، وتتخصّص في منتجات متخلفة نوعياً محدودة القيمة المضافة عالية التنافسية في الأسواق الدولية.

كما أنها حتى فيما تنتجه محلياً تعتمد بشكل مُفرط على السلع الرأسمالية والوسيطة المُستوردة؛ بما يضعف صافي متحصلات النقد الأجنبي من صادراتها المحدودة أصلاً.

ولا ننسى أن ضعفها الإنتاجي يمتد إلى قطاعها الزراعي محدود الموارد والمتخلف إنتاجياً والمُشوّه مؤسسياً؛ بما أدى لفجوة غذائية مُزمنة جعلته عبئاً على التنمية لا قاعدة لها كما هو مُفترض منه.

الطبقة الرابعة، وهى الطبقة المالية، وتعكس المعاملات المالية للاقتصاد من جهة حركة رؤوس الأموال، من استثمارات مباشرة وغير مباشرة وقروض وما شابه، فضلاً عن حركة المعونات والمنح بلا مقابل (والتي يُفترض تجاهلها لمحدوديتها وعدم نظاميتها).

وتزداد أهمية هذه الطبقة كلما زادت تشابك الاقتصاد الوطني مع الخارج، وإن حظت بخطورة أكبر كلما ضعف الاقتصاد الوطني وزادت درجة تبعيته وطرفيته؛ حيث تصبح بالسلب من حيث الأصل.

ولا يغيّر من ذلك إيجابيتها العارضة، التي ترتبط عادةً بارتفاع وتيرة الاقتراض من الخارج بما له من آثار ضارة غالباً، أو بزيادة نسبة المعونات والمنح التي نادراً ما تخلو من الأثمان السياسية.

وعلى مستوى هذه الطبقة، فبخلاف سياسة التمويل التضخمي والطباعة المتزايدة للنقد الوطني المرتبطة بسياسة مالية توسّعية استمرت بمراكمة الدين العام المحلي المستمر بالنمو منذ عهد مبارك؛ بما ساهم بلا شك في تدهور وضع الجنيه.

فقد دخلت مصر نفقاً مظلماً في العقد الأخير بالاقتراض الخارجي بشكل مُفرط غير مسؤول؛ بما زاد ديونها الخارجية من حوالي 40 مليار دولار في العام 2014 إلى 165 مليار دولار خلال الفترة 2013-2023، بزيادة بنسبة 312% تقريباً أو أكثر من ثلاثة أضعاف.

وما زاد الطين بلة هو سوء توظيف هذه القروض؛ بوضع معظمها في مشروعات بنية تحتية، أولاً بعيدة العوائد؛ بما أخلّ بعلاقة التناسب الضرورية ما بين فترة استرداد عوائد الاستثمار وآجال استحقاق تمويله كمبدأ مالي ومحاسبي أساسي، وثانياً مرتفعة المخاطرة؛ كونها تراهن على جذب الاستثمار الأجنبي المباشر في سياق من اتجاه الاقتصاد العالمي إلى ركود غير مسبوق.

وهو نفس الخطأ الذي ارتكبته مصر سابقاً مع مشروع تفريعة قناة السويس، الذي لم يراع التراجع المستمر في التجارة الدولية منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008 وفائض الطاقة التشغيلية بالقناة البالغ الثلث تقريباً، في تكرار غريب ومُؤسف حقاً لأخطاء ليس لها ما يبرّرها من الأساس.

وكل ذلك دون أن نناقش، كاستطراد ضروري، التناقض الحاد ما بين سياسة تنمية بنية تحتية ضخمة بهدف جذب الاستثمار الأجنبي، باستثمارات هائلة بلغت حدّ إنشاء عاصمة جديدة كاملة في قلب الصحراء، والتدهور المتزايد في مؤشرات البلد المؤسسية بفعل ممارسات السلطة نفسها، مع تراجع حكم القانون واستقلال القضاء وشفافية المعلومات وحرية الصحافة والإعلام وتداول السلطة وغيره، مما يهتم به أي استثمار جاد طويل الأجل؛ كضمانة للالتزام بتعاقداته وحفظ استثماراته.

ذلك التدهور الذي بلغ حدّ تراجع نشاط القطاع الخاص المحلي نفسه، وانسحاب بعض كبار المستثمرين المصريين ببعض أنشطتهم واستثماراتهم إلى خارج البلاد.

وأخيراً تأتي الطبقة الخامسة، الأكثر هامشية وعَرضية، لكن هائلة الأثر رغم ذلك، وهى الطبقة السيكولوجية التي تعبّر عن توقّعات وثقة الناس في النقد الوطني والاقتصاد عموماً.

فإن كان تفاؤلاً وخيراً فاحتفاظ بالنقد الوطني وضخ للموارد في الاقتصاد، وإن تشاؤماً وشراً فالعكس، هروباً من الأول ومضاربةً عليه، وتجميداً واكتنازاً للثانية بعيداً عن التداول في السوق؛ ما يجعل آثارها أخطر بكثير مع سرعة انعكاسها على قيمة الأصول وسعر الصرف، ثم أساسات الاقتصاد نفسها.

ويمثل الارتفاع السريع في سعر صرف الدولار مقابل الجنية أوائل العام الحالي، في الشهر السابق مباشرةً على الصفقات الأخيرة، نموذجاً مُصغّراً لحالة التوقعات السلبية وتدهور الثقة، والتي عكست طريقة المواجهة الحكومية لها خللاً في توصيف المشكلة كان يمكن أن يردينا موارد التهلكة، لولا الصفقات التي أعادت بعضاً من الثقة بمستقبل الاقتصاد في الأجل القصير.

فالأساليب الأمنية التي اتبعتها الحكومة لمواجهة المضاربة، والمناقضة للحقوق الدستورية للمواطنين ومبادئ احترام الملكية الخاصة والحَرم الشخصي، لم تكن لتؤدي حال استمرارها بذات الوتيرة –لا قدّر الله- سوى لمزيد من عدم الثقة وتهريب وتجميد الأموال بعيداً عن أعين الحكومة العاجزة عن تنظيم المرور، لكن لديها من الغرور الساذج ما يكفي للاعتقاد بأنها ستخرج عِنوةً ما يخفيه الناس "تحت البلاطة".

والأدهى اعتقادها بأنها يمكن أن تستمر بذلك دونما فضائح مدوّية تطرد مزيداً من الموارد والاستثمارات وترهب أيّ مستثمر عن الاقتراب من هكذا دولة ترتد تاريخياً إلى المصادرات القروسطية السابقة على منطق الدول الحديثة وحقوق الإنسان.

ويمثل الارتفاع السريع للدولار مقابل الجنيه في السوق الموازية في فترة زمنية قصيرة، ما ذكرناه سلفاً من اختلاف ترتيب الأهمية النسبية بين الطبقات المذكورة بحسب السياق اللحظي.

فمن المؤكد أن لا شيء في مصر قد تغيّر في هذه الفترة القصيرة في ايّ من الأساسات الاقتصادية أو الأُطر المؤسسية أو الأوضاع التجارية والمالية، بما يؤدي لهكذا ارتفاع مفاجئ بلغ ما يقرب من 100% في أقل من شهر.

لكن ما حدث هو أن نقاط ضعفها الكامنة تظل تختمر تحت السطح حتى تنعكس في الحالة السيكولوجية والتوقعات المستقبلية لتصنع حالة من الذعر المضاربي؛ ليصبح مفصل المضاربة هو الأكثر مركزية في هذه المرحلة؛ صانعاً قفزات سعرية كبيرة، بما يتجاوز عادةً الأسعار العادلة المرتبطة بالأساسات الاقتصادية والأوضاع التجارية والمالية، وبفروق كبيرة جداً في معظم الأحيان.

ويعكس الوصول إلى هذه النقطة "مشكلة ثقة" في العملة الوطنية كمخزن للقيمة، لا مشكلة نقص الدولار بحد ذاتها، حتى وإن كانت الأخيرة أساس ومصدر الأولى.

ومع أهمية الطبقات الأربعة الأخرى، وكونها الحاسمة في الحل الجذري الحقيقي لمشكلة سعر الصرف، تحتاج مصر لمعالجة عاجلة لمشكلة الطبقة السيكولوجية المُتمثلة في تراجع الثقة بالجنيه، والتي هي مشكلة سياسية كما هي اقتصادية؛ حيث تعكس تراجعاً أعمّ في الاقتصاد والدولة نفسيهما.

وهى معضلة لن تحلّها جوهرياً أيّة صفقات استثمارية أو تدفقات دولارية ما لم تظهر الحكومة للشعب والخارج معاً، بدءًا من أصغر موظفيها إلى أكبر رؤوسها، تغييراً واضحاً مُعلناً وصريحاً في العقلية، تؤكده بالتزام حقيقي بسيادة القانون والشفافية والرقابة الشعبية أولاً، وبسياسات اقتصادية ومالية أكثر حكمةً ورشادة ثانياً.

المساهمون