"قتلوا هشام!"
في مساء السادس من تموز/يوليو، كنت ممدداً في منزلي أتصفح على هاتفي مجموعة الواتساب التي تضم عشرات الصحافيين العراقيين والأجانب، ومن بينهم صديقي الدكتور هشام الهاشمي، عندما كتب أحدهم "قتلوا هشام!".
في البدء لم أصدّق. لكن خبر الفاجعة بدأ ينتشر. مسلحون أطلقوا النار على هشام الهاشمي، الخبير في شؤون العراق والجهاديين ومستشار السياسيين، قرب منزله، وأردوه.
هرعت إلى منزله الذي يبعد عشر دقائق عن مكان إقامتي في الحي نفسه. عندما وصلت، رأيت عشرات الجنود ورجال الشرطة يطوقون المكان.
بلا وعي، خانتني دموعي، إذ أيقنت في لحظة أن الأمر حقيقة. لقد اغتالوا هشام (47 عاما)، الوالد لأربعة، والباحث الذي شارك في دراسات ومقابلات ونشر مقالات وكتبا في مواضيع عدة.
اغتالوه في سيارته التي رأيتها في المكان مضرجة بدمائه، وزجاجها محطم بفعل الرصاصات التي اخترقتها قبل أن تخترق جسده. لقد اغتالوا صديقي أبا عيسى!
أوجعني رحيله كما أوجع كثيرين ممن عرفوه أو لم يعرفوه. صديقي الذي كان محباً للعراق وساعياً بلا كلل إلى إخراجه من أزماته، رحل.
قبل تفشي جائحة كوفيد-19، تناولنا الغداء سوياً في مطعم أبو أحمد الدراجي الشعبي في حي الكرادة في وسط بغداد. كانت هذه عادتنا عندما يسنح له وقته الضيّق، ثم ننهي لقاءنا بكوب شاي في مقهى أبو حالوب المجاور.
"هل تناولت الإفطار أبا ياسر؟"، كان يسألني عندما يكون لديه عمل في وقت مبكر، فيشهد مطعم قدوري على أحاديثنا أمام طبق المخلمة العراقي الذي كان طبقه المفضل.
كان هشام يعشق الجلوس في المطاعم والمقاهي الشعبية بين الناس، ولا يمر يوم دون أن يقاطع أحاديثنا بعض محبيه الذين يلقون عليه التحية ويطرحون عليه الأسئلة عن العراق ومشاكل العراق، وهو يجيب بطيبته المعهودة.
كان هشام الهاشمي الموسوعة التي لا تبخل عليك بمعلومة أو نصيحة. محترف، ذكي، صاحب ظهور شبه يومي كمحلل على شاشات عربية وعالمية، الى أن أصبح مرجعاً لمعشر الصحافيين.
وكان هذا العالم الراحل هدف كل صحافي أجنبي يصل إلى العراق. "هل يمكن أن نلتقي بالهاشمي؟" كانوا يسألون، وهو لا يرفض طلباً رغم ضيق جدول مواعيده.
ساهمت أبحاث هشام في تفكيك تنظيم الدولة الإسلامية خلال سنوات المعارك في سوريا والعراق. وقد عمل مستشارا لكبار قادة الدولة ومنظمات دولية عدة. وكان مقربا من رئيس الحكومة العراقي مصطفى الكاظمي.
في تشرين الأول/أكتوبر 2019، بدأت حركة احتجاجية في العراق الذي كان أنهى قبل سنتين معركته ضد تنظيم الدولة الإسلامية. خرج الناس الى الشارع منددين بسوء الإدارة والفساد وعدم إيجاد حلول لأزمة معيشية واقتصادية طالت.
منذ بدء تلك الحركة التي شهدت تراجعا بعد انتشار فيروس كورونا المستجد، قتل عشرات الناشطين، غالبا على أيدي مسلحين مجهولين.
وناصر هشام الهاشمي "الثورة" ودافع عن أحقية مطالب المتظاهرين الذين ينتمون بمعظمهم الى جيل الشباب، وندّد بتصرفات المجموعات المسلحة الموالية لإيران في العراق، وبقمع التظاهرات التي تخللها مقتل أكثر من 550 شخصا.
كان أبو عيسى غنيّ النفس، صديقا صدوقا لم يبخل يوماً بالمساعدة، وكانت يده ممدودة للجميع.
لم تدفعه الشهرة الى الانغماس في وحول الممارسة السياسية العراقية. فعلى الرغم من قربه من السياسيين، كان يرفض التوسط حتى من أجل وظيفة لأقرب الناس إليه.
ويقول أحد إخوته إن هشام "كان يرفض طلب تعيين إخوته في وظائف. وكذلك الأمر بالنسبة الى بنات شقيقه رغم حصولهم على شهادات جامعية، وكان يخصص لإخوته وأخواته راتباً شهرياً مما يجنيه".
ويشهد كثيرون لهشام أعماله الإنسانية.
فكان مثلاً أول المبادرين لدعم امرأة نيجيرية تقطعت بها السبل في دائرة الإقامة بعدما حكم عليها قاض بالإبعاد. لم تكن المرأة تملك ثمن تذكرة سفر، فعمل هشام على جمع المبلغ وشراء تذكرة عودتها إلى بلادها.
عندما رأيت سيارته المضرجة بدمائه، تذكرت يوم كنا فيها سوية، ووقفنا عند إشارة المرور الحمراء في بغداد.
ما إن لمحه شرطي المرور حتى توجه إليه وألقى تحية عسكرية وقال "دكتور، سأفتح لك السير، أنت شخصية وطنية كبيرة". لكن هشام رفض قائلاً "أرجوك تقبّل احترامي، أنا إنسان عادي، لا أقبل أن تفضلني على الآخرين".
كان غريباً في مجتمع يعيش على الواسطة والمعارف والعلاقات. كان غريباً في بلد لم يعتد يوماً إلا على تقديس أشخاص، لذا كان تواضعه دائماً محل استغراب من شخصية تعطي ولا تأخذ، تخدم الغير، وتبقى متعففة.
في الجانب غير الظاهر للإعلام. كان هشام أباً حنوناً لعيسى وموسى وأحمد وخديجة، وولداً باراً لوالديه وإخوته وأقاربه، قريبا ودودا حتى من الغرباء.
كنّا نتطرق إلى الموت في كل لقاء. فقد تلقّى تهديدات أكثر من مرة. وكان جوابه الدائم مع ابتسامته المعهودة "عمّوري، لكل أجل كتاب".
اغتيال هشام فاجعة. وخسارته لا يمكن تعويضها. سيبقى مقتل صديقي هشام جرحاً لن يندمل في قلبي.