ومن هذه الكثرة في عدد الأطباء يتبين لنا أن الحاجة إلى دراسة الطب والعلوم كانت حاجةَ عُمرانٍ كامل، ولم تكن حاجة أفرادٍ أو طوائفَ محدّدة.
ولم تكن مزاولة الصناعة وحدها هي الغرض المقصود من هذه النهضة الواسعة، وهذا التعليم المستفيض؛ لأن أشهر الأطباء كانوا يضيفون إلى علم الطب علما آخر كالفلسفة أو الهندسة أو الفلك أو الكيمياء، وكانوا يؤلفون الموسوعات ويطلبون البحث في أمهات هذا العلم حيث كان، ولم يقنعوا بما وجدوه من كتب الإغريق الأقدمين أو كتب الفرس والهنود، ورجعوا إلى كل مظنة من مظانّ التوسع في هذه البحوث، فتساوى بحثهم عن كتب الطب، وبحثهم عن كتب الهندسة والنجوم وسائر المعلومات، ووضعوا الكتب فيما قرأوه وترجموه؛ فإذا هو موسوعات، وإذا هي مباحثُ تهذيب واستقصاء، وليست متاجرَ أرباح.
ومن موسوعات الطب الإسلامية ما لم يوضع له نظير في الضخامة والتمحيص على قدر أسباب التمحيص في زمانه، وقد تُرجمت كلها إلى اللاتينية.
فترجم كتاب القانون لابن سينا في القرن الثاني عشر (وهو موسوعة جمعت خلاصة ما وصل إليه الطب عند العرب والإغريق والهنود والسريان والأنباط) وتُرجم كتاب الحاوي للرازي سنة ١٢٧٩، وتُرجمت كتب ابن الهيثم في ذلك العصر، فكان عليها مُعَوَّلُ الأوروبيين اللاحقين جميعا في البصريات.
وظهر من برامج جامعة "لُوفّان" المحفوظة أن كتب الرازي وابن سينا كانت هي المرجعَ المعوّلَ عليه عند أساتذة تلك الجامعة إلى أوائل القرن السابع عشر. وجاء المدد من الأندلس العربية، فأمد أوروبة بمرجعها الأكبر في الجراحة وتجبير العظام، وهو كتاب "التعريف لمن عجز عن التصريف" لأبي القاسم خلف بن العباس (الزهراوي)، وقد طبع باللاتينية في القرن الخامسَ عشَرَ، وكان قبل طبعه دروسا متداولةً بين أبناء الصناعة يعتمدون عليها في الأعمال الجراحية.
تكاثرت المستشفيات باسم "المارستانات" في أنحاء الدولة الإسلامية بعد القرن الثالث الهجري، وكانت لهم طريقة لطيفة للتحقق من جودة الهواء وصلاح الموقع لبناء المستشفيات تُغْنِي عن الأساليب العلمية التي اتُّبعت في العصر الحاضر، بعد كشف الجراثيم والإحاطة بوسائل التحليل، فكانوا يُعلِّقون اللحوم في مواضعَ مختلفةٍ من المدينة في وقت واحد، فأيها أسرعَ إليه العَفَن اجتنبوا مكانه، واختاروا المكان الذي تتأخر فيه عَوارض الفساد.
وقد تسلم العرب الطب في مرحلة من مراحله الطويلة بين النظريات القديمة والنظريات الحديثة.. ولم تكن العلوم في جملتها قد وصلت إلى الطور الذي يسمح بابتكار النظريات الحديثة، فاعتمدوا الملاحظة والتجربة، ولم يعوّلوا كل التعويل على التزام النظريات أو ابتكار الجديد منها.
وقد تُرجم كتاب "السبعين" و"تركيب الكيمياء"، لجابر بن حيّان، إلى اللاتينية في أوائل القرن الثاني عشر، وظلت كتبه عمدة في هذا العلم بين الأوروبيين إلى أواخر القرن السابعَ عشر.
ونُقلت كُتُب الرازي، ومنها تلقى الأوروبيون تقسيمَ المواد الكيميائية إلى نباتية وحيوانية ومعدنية، وتقسيمَ المواد المعدنية أدقَّ تقسيم عُرِف في العصور الوسطى. ولعل التاريخ الأوروبي لم يتأثر بشيء من كشوف العرب في المَعْدِنِيّات كما تأثر بكشف البارود واستخدامه في الأسلحة.
وفي الطبيعيات أخرج العرب الثَّقَل النَّوعي لكثير من العناصر والجواهر النفيسة، ونقلوا رأي الإغريق في الجاذبية وتعليل الثقل، وفحواه أن الأجسام الثقيلة مجذوبة إلى أصلها في السماء، ولكن البيروني شك في ذلك، ووجّه إلى ابن سينا سؤالا يَدُلّ على ميله إلى القول بأن الأجسام كلها مجذوبة إلى مركز الكرة الأرضية. وقد مهدت هذه الآراء سبيل نيوتن إلى كشف قانون الجاذبية وتعليل الثقل على أساس العلم الحديث.
وللبيروني أيضا فضل السبق إلى درس السوائل في عيون الأرض ومرتفعات الجبال، وما تُحْكَمُ به حركاتها في حالي التوازن والارتفاع. ومن رواد هذه المباحث في اللغة العربية أبناء موسى بن شاكر أصحاب كتاب الحيل، الذي يعد أصلا من أصول الميكانيكا قبل تطورها الأخير في عصر الآلات.
على أن الجانب المهم من أثر هذه الموسوعات الثقافية في أوروبّة لا يتوقف على تعديد المعلومات.. وإنما المهم أن الأوروبيين تناولوا مشعل العلم من أيدي العرب فاستضاءوا به بعد ظُلمة، وبلغوا به بعد ذلك ما بلغوه من هذا الضياء العميم الذي انكشفت به أحدث العلوم.
المصدر:
عباس محمود العقاد: أثر العرب في الحضارة الأوروبية، نهضة مصر.
ص 33-42 (بتصرف).