لم تنجب بغداد علما وفلسفة فقط، بل كان للإبداع في أروقتها نصيب كبير؛ فها هو الطائر الأسود المغني البغدادي أبو الحسن علي بن نافع الشهير بزرياب مبدع الموسيقى والموشحات؛ حيث كان له الفضل في تطوير العلوم الموسيقية في العالم كله. جعل زرياب للعود العربي خمسة أوتار ملأت أنغامُها بلاط الخلفاء وألِفه البغداديون واعتادوا عليه، انتقل إلى الأندلس لاحقًا ونزل بقرطبة، فكان صاحبَ الفضل في ولادة الموشحات الأندلسية.
هي قِبلة الجَمال ومأوَى المبدعين، تحترف إمامة الأرض دائمًا. من فنانيها شيخ الخطّاطين ابن مُقلة خطّاط العربية الأشهر عبر التاريخ، صانع خط الثلث العربي. ها هو يبرع ويزاوج الحروف ويقدر لها مسافات، يخط لبغداد تاريخها ويوثّق كلماته على صفحات نهضتها.
خلال نهضة بغداد في العصر العباسي لم تتوقف البصرة والكوفة عن إنتاج الحضارة أيضا، فمدرستا البصرة والكوفة في الأدب والشعر واللغة أقدم عمرًا من بغداد، لكن بغداد غدت محجًّا للشعراء والأدباء، كيف لا وهي عاصمة الخلافة ومركز العلم، فلم يبق عَلَم من أعلام الشعر والأدب في العصر العباسي إلا ونزل بها.
وانتشرت في بغداد المدارس ودور العلم الكبيرة، من أشهرها على الإطلاق المدرسة المستنصرية، وهي التي أسسها الخليفة المستنصر بالله عام ستمئة وواحد وثلاثين للهجرة، وبقيت مَعْلَمًا تاريخيًّا لبغداد إلى يومنا هذا. فقد أُعيد بناؤها وترميمها في العصر الحديث لتكون على شاكلتها العباسية الأصلية.
ومن علماء الفقه المشهورين زمن المأمون الإمام أحمد بن حنبل أحد أبرز علماء أهل السنة والجماعة، هو ابن بغداد، ولد وعاش ودفن فيها. عارض الإمام أحمد بن حنبل المأمون في قصة خلق القرآن أشهر قصة اختلاف حدثت في التاريخ الإسلامي، حيث كان المأمون يتبنّى الاعتزالَ مذهبًا فلسفيًّا.
بلغت بغداد زمن العلماء العباسيين عنان السماء، حيث يقول المستشرق الروسي إغناطيوس كيرتش روسكي إن تأثير بغداد ودولتها العربية الإسلامية في مختلف العصور ظَلّ بارزًا أبدًا في جنوب روسيا وآسيا الصغرى وبلاد ما وراء النهر. بل إن القرآن والعملة البغدادية وسواها في عهد الرشيد والمأمون وخلفاء بغداد بلغت البلطيق وتجاوزته إلى فنلندا.