“ليوناردو المفقود”.. غموض يلف قصة أغلى لوحة في تاريخ الفن
رحلة مذهلة تلك التي قطعتها لوحة “منقذ هذا العالم” في غضون سنوات قليلة، فبعد أن بيعت بسعر 1175 دولارا فقط في مزاد صغير في مدينة “نيو أورليانز” الأمريكية في عام 2005، تنقلت هذه اللوحة إلى عدة أماكن حول العالم، وانتهت في مكان غامض عام 2017، بعد أن بيعت الى شخصية مجهولة بسعر 450 مليون دولار، لتكون الأغلى في تاريخ الفن.
يعود المخرج الدنماركي “أندرياس كويفود” في فيلمه الوثائقي “ليوناردو المفقود” (The Lost Leonardo) إلى الأحداث التي رافقت العثور على ما يُقال إنه لوحة مفقودة للفنان الإيطالي المعروف “ليوناردو دافينشي” (صاحب لوحة الموناليزا الشهيرة)، ويبدأ من يوم العثور على اللوحة، وحتى بيعها في مزاد كريستي الأمريكي بالسعر الخيالي الذي بيعت فيه لشخص لم يرغب بالكشف عن هويته، ويقال إنه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
يغوص المخرج في خبايا عالم الفن واللوحات العالمية، ويكشف كيف يتقاطع هذا الفن مع عالم المال والأعمال والسياسة، وكيف يُمكن أن يرقص الجميع رقصة واحدة إذا تطلب الأمر، لجني مزيد من الأموال، وذلك على حساب المصداقية الفنيّة والتاريخية.
لوحة متضررة في مزاد صغير.. كنز بمبلغ زهيد
يبدأ الفيلم بمقابلة تاجر اللوحات الفنية “ألكسندر باريش”، وهو تاجر لوحات فنية محدود الإمكانيات، يتجول على مزادات الأعمال الفنية باحثا على لوحات يتاجر بها. ويعود “باريش” إلى لقائه الأول مع لوحة “منقذ هذا العالم”، فقد كانت معروضة في زاوية صغيرة من صالة المزادات، وكانت متضررة إلى حد كبير، حتى أن ألوان اللوحة بهتت في مواضع منها، وكانت هناك مناطق تالفة تماما منها.
بيد أن شيئا ما في اللوحة سيجذب “باريش”، ويقرر شراءها بمبلغ زهيد، وسينجح تاجر اللوحات بإقناع زميل له بالمشاركة في الترويج لها، بعد أن توصلا معا إلى أنها يُمكن أن تنتمي لعصور النهضة في إيطاليا.
تبدأ رحلة اللوحة الفعليّة عندما تصل إلى مرممة اللوحات الفنية المعروفة “ديان موديستيني”، وقد استطاع المخرج أن يحاورها، بل إنها وفرت له بحماسها وشغفها ما يُمكن أن يُعد القلب العاطفي للفيلم الوثائقي، في وسط الأرقام والجشع والمؤامرات التي يمر الفيلم عبر زمنه عليها.
“إنها لوحة لدافينشي”.. دهشة الوقوف أمام إحساس صاحب اللوحة
تصف “ديان” لقاءها الأول مع اللوحة، وأنها وضعتها في شقتها بمدينة نيويورك من أجل بدء عمليات الترميم، وتتحدث عن المشاعر الغريبة المثيرة التي اجتاحتها عندما بدأت تقترب فعليا من اللوحة، لتفك أسرارها.. وتقول بدهشة “إنها لوحة لدافينشي”.
وتستعيد دهشتها الأولى أمام اللوحة حينذاك، وتروي كيف بدأت تتتبع إحساس الفنان صاحب اللوحة، عندما بدأت بتتبع ضربات ريشته أثناء عمليات الترميم.
“ابتسامة الشخصية في اللوحة تشبه طريقة رسم لوحة الموناليزا”. فهذا الاكتشاف لمرممة اللوحات “ديان موديستيني” هو الذي سيطلق عمليا رحلة هذه اللوحة، من المجهول الذي كانت فيه، إلى المجد والأموال الهائلة التي بيعت بها في سنوات قادمة لاحقة.
تضفي السمعةُ الكبيرة لمرممة اللوحات “ديان موديستيني” شرعيةً كبيرة للوحة المجهولة، مع أن تأكيداتها تواجه بعاصفة من النقد من زملاء لها من فنانين ونقاد للفن التشكيلي، وقد تحدث بعضهم للفيلم، فأبدوا شكوكهم حول علاقة “دافينشي” باللوحة، وعدم إجابة “ديان” على عدة أسئلة تخص اللوحة.
المتحف البريطاني.. تظاهرة فنية تضفي الشرعية الرسمية
فجأة تتلقى اللوحة دعما كبيرا غير متوقع من بريطانيا، وبالتحديد من المتحف الوطني في لندن، إذ يقرر أن يعرض اللوحة ضمن تظاهرة خاصة بهذا الفنان الإيطالي “ليوناردو دافينشي”، ولا يفسر المتحف أسبابه التي جعلته يعطي شرعية للوحة المجهولة، أو ما إذا كان المتحف قد عمل بحوثه الخاصة على اللوحة، ولا سيما أنها كانت حتى ذلك الحين مجهولة إلى حد كبير، وهناك تنازع حول علاقتها بالفنان “ليوناردو دافينشي”.
ويذهب الفيلم الوثائقي إلى بريطانيا لمقابلة مدير المتحف البريطاني، الذي يتمسك بقراره حينذاك، ويرفض الخوض في التفاصيل، بل كان متشددا مع فريق الفيلم، وأنهى المقابلة بتذمر كان واضحا على وجه.
ويروي “ألكسندر باريش” أنه وشريكه كانا خائفين كثيرا من وصول اللوحة سالمة من الولايات المتحدة إلى بريطانيا لعرضها هناك، وعدم قدرتهم في ذلك الوقت على تأمين اللوحة في واحدة من شركات التأمين المعروفة، لذا فقد نقلوا اللوحة بأنفسهم في الطائرة، ومن دون الإجراءات المعروفة لنقل اللوحات الغالية.
وقد فتح اعترافُ المتحف البريطاني باللوحة الطريقَ لها في محطتها القادمة، التي ستكون في خزانة سويسرية شديدة الإحكام، وذلك بعد أن اشتراها مليونير روسي من الذين جنوا ثرواتهم من صفقات مريبة وغامضة لبيع البترول الروسي.
“إيف بوفييه”.. صندوق تخزين للأثرياء ورجل أعمال محتال
يخصص الفيلم وقتا طويلا نسبيا لرجل الأعمال السويسري “إيف بوفييه” الذي اشترى اللوحة بطلب من رجل البترول الروسي “دميتري ريبولوفليف”، ويركز المخرج على غرابة شخصية رجل الأعمال السويسري، فهو إضافة إلى عمله تاجرَ لوحات، يملك بناية كاملة من الخزانات الشديدة الحراسة، تضم نفائس غالية جدا لأثرياء من حول العالم.
ولا يتردد “إيف بوفييه” في الكشف للفيلم بأن ما يحركه هو المال فقط، وأنه قد يفعل أي شيء من أجله، وهذا بالضبط ما سيفعله مع رجل الأعمال الروسي، إذ سيخدعه في ثمن اللوحة، ويبيعها له بسعر 83 مليون دولار، وهو أعلى بثلاثين مليون دولار من السعر الذي اشتراها به من تاجر اللوحات الأمريكي.
ولا يبدو “إيف بوفييه” مهتما كثيرا بسمعته التي قد تتأثر بعد الكشف عن خديعته لرجل الأعمال الروسي، بل إنه لا يبدو مهتما بسلامته الخاصة، حتى بعد تهديده من جهات مجهولة، يتصور أنها من روسيا.
توفر شخصية “إيف بوفييه” غريب الأطوار بعض الكوميديا للفيلم، إذ يقرر -لأسباب غير مفهومة تماما- فتح خزائنه لفريق الفيلم، فأخذ الكاميرا إلى البناية التي يملكها بجانب أحد المطارات في سويسرا، وفيها يخزن الأغنياء بسرية كبيرة نفائس لهم، بعيدا عن أعين الحكومات أو رقابة من أي نوع.
دار “كريستي”.. إعلان مبتكر يلامس درجة الخشوع
يواصل الفيلم تتبع طريق اللوحة، فبعد بيعها إلى رجل الأعمال الروسي، تبدأ معركة قضائية بينه وبين رجل الأعمال السويسري يتهمه فيها بالاحتيال، وذلك قبل أن يقرر الروسي أن يبيعها عبر مزاد “كريستي” الشهير في مدينة نيويورك.
وحين تصل اللوحة إلى مزاد “كريستي”، يبدأ الفصل الأكثر تشويقا في عمرها، وهو الفصل الأكثر إثارة في الفيلم، إذ ستبدأ دار المزادات الفنية الأمريكية حملةً هي الأكبر في تاريخها وتاريخ الفن، لبيع اللوحة.
فقد أنتجت دار المزادات مقطعا إعلانيا مبتكرا وغير مسبوق لبيع اللوحة، فصورت رجالا ونساء وأطفالا من أعمار مختلفة ينظرون باتجاه لوحة ما، دون أن تعرض ما ينظرون إليه. وقد أظهر الفيلم الدعائي القصير وجوها متأثرة بالكامل، وهي تنظر إلى جهة ما، في تجربة تقترب من الخشوع أو التجربة الروحية.
وقد استطاعت دار “كريستي” إقناع النجم السينمائي “ليوناردو دي كابريو” بالظهور في إعلانها المبتكر، وكان -مثل الناس المجهولين- ينظر بتأثر كبير إلى لوحة هي أقرب للحلم.
صراع الأثرياء.. ساحة حرب حول لوحة مريبة
مع أن مشاهد المزاد العلني الذي نظمته دار “كريستي” في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017 لبيع اللوحة، قد عُرضت مرارا على شاشات التلفزيون، فإن استعادتها في الفيلم ضمن توليف جديد، حقنها بإثارة كبيرة تقطع الأنفاس.
تحولت قاعدة المزادات إلى ساحة للصراع على لوحة ليس من المؤكد نسبتها إلى الفنان “ليوناردو دافينشي”، ليبدو تنافس الأثرياء للحصول عليها صراعا على القوة والوجاهة، ولن يكون السباق على شراء اللوحة بين الموجودين في قاعة المزادات حينها، بل أيضا من خارجها، ممن كانوا يتواصلون مع ممثليهم عبر الهاتف.
ومن هؤلاء الذين كانوا على الهاتف في مكان ما في العالم، مالك اللوحة الجديد الذي سيدفع 450 مليون دولار، ليكون أضخم مبلغ يدفع لشراء لوحة فنيّة في التاريخ.
مالك اللوحة الغامض.. ادعاءات لا تثبتها الأدلة الحاسمة
يخصص الفيلم الدقائق الأخيرة للتحقيق في هوية الشخصية أو الدولة التي اشترت اللوحة، وقد أبقت دار “كريستي” هويته مجهولة. ويستعرض الفيلم التغطيات الإخبارية التي تشير إلى أن السعودية وشخص ولي العهد الأمير محمد بن سلمان هما من يقفان خلف شراء اللوحة، وأن اللوحة ربما تكون موجودة اليوم في مكان ما في السعودية.
ويستعيد الفيلم حادثة مهمة دالة على ذلك، إذ كان متحف اللوفر يتهيأ لعرض اللوحة في معرض يعد الأكبر لأعمال الفنان “ليوناردو دافينشي”، حتى إن المنظمين وضعوا معلومات عن اللوحة في كتاب خاص عن المعرض المرتقب، لكنهم عادوا وحذفوا القسم الخاص باللوحة من الكتاب، وعادت اللوحة إلى مكانها في الظلام.
ويربط الفيلم بدون أدلة حاسمة بين علاقة المملكة العربية السعودية بفرنسا والعالم الغربي عموما، وأن سياسة المملكة الجديدة في الانفتاح وقتها على العالم ربما كانت وراء شراء اللوحة، لتكون مدخلا جديدا لعلاقة طيبة، وهذه الادعاءات لم ينفها أو يثبتها أي تصريح رسمي سعودي، وبقيت مجرد تكهنات، لتبقى هوية المالك الحالي للوحة مجهولا.
عالم الفن الغربي.. صوت المال فوق كل المصالح
يستعرض الفيلم برشاقة تفاصيل غير معروفة من عالم الفن التشكيلي الغربي، فنرى أنه لا يختلف كثيرا عن مجالات أخرى، من حيث تدخل رأس المال في جميع تفاصيله، على حساب الأمانة الفنية. فلوحة “منقذ هذا العالم” لم تخضع لفحص يشرف عليه متخصصون كثيرون، لكنها حصلت على شرعية استثنائية، جعلتها أغلى لوحة في تاريخ الفن.
وقد أتاحت الإمكانات الإنتاجية الكبيرة للفيلم حرية التنقل في أكثر من بلد، والوصول إلى شخصيات عدة، بعضها لا يتحدث بسهولة للإعلام.
كما يتميز الفيلم بسعيه لظهوره بصورة مميزة، وخاصة في المشاهد التي صورت في مدينة نيويورك، وتستعيد الأيام الأولى لترميم اللوحة في شقة المرممة “ديان موديستيني”، وقد تميزت تلك المشاهد بأجوائها السينمائية القاتمة، ومهدت بإثارة للطريق الذي ستأخذه اللوحة في سنوات قادمة.