المسلمون في الصين.. كفاح العقيدة والثقافة والفنون منذ فجر الإسلام

الصين، حيث يعيش خُمس سكان الكوكب، 1.5 مليار نسمة، على مساحة من اليابسة هي الثانية على مستوى العالم، وتنوُّع من الأعراق والقوميات والثقافات يعزّ حصره، هناك يعيش أكثر من 20 مليون مسلم، وفيها 35 ألف مسجد يشرف عليها 45 ألف إمام، معظمهم من السنّة وينتمون إلى أقليات مختلفة، وهم جزء مهم من تاريخ الصين منذ 13 قرنا، وحافظوا على نقاء عقيدتهم رغم الصعاب.

فكيف اعتنق هؤلاء الإسلام وكيف وصلهم؟ ومن هم أجدادهم؟ وكيف هي روابطهم مع بلاد العرب؟ هذه التساؤلات كانت محور فيلم من جزأين، أُنتِجَ خصيصا لقناة الجزيرة الوثائقية، وجرى بثه بعنوان “الإسلام في الصين”.

ونودُّ أن نُنَوِّه إلى تشابه وصعوبة أسماء الأشخاص والأماكن الواردة في النص المستقاة من الترجمة العربية للفيلم أو من ألْسِنة الناطقين بها، مع مراعاة اختلاف النطق بها.

تجار الحرير والتوابل.. رسل الإسلام إلى بلاد الصين

يقول البروفيسور “لي جيان باو”: يتفق المؤرخون على سنة 651م وهي السنة الثانية في حكم “تانغ تشي لي”، عندما أرسل الخليفة عمر بن الخطاب رسولا لـ”شانغان” وأقام علاقات صداقة مع سلالة “تانغ”، وقد يكون وصل قبل ذلك نظرا للعلاقات الوثيقة بين العرب والصينيين، بل إن وثائق عربية تتحدث عن معلومات للسفن الصينية التي وصلت منطقة الخليج العربي للتجارة قبل ميلاد المسيح.

وقد سلك العرب طريق الحرير للتجارة البرية مع الصين، ونقلوا بذلك عقيدتهم الإسلامية لتلك البلاد، وكذلك طريق التوابل (الحرير البحرية) عبر الخليج العربي والمحيط الهندي. وقد ازدهر الإسلام في الصين خلال ثلاث فترات: سلالة “تانغ” حتى 907م، ثم سلالة “سونغ” حتى 1229م، ثم عائلة “يوان” حتى 1368م.

طريق التوابل البحري بين الشرق الأوسط والصين

ويذكر المؤرخون أنه خلال السلالتين الأولى والثانية كان وجود المسلمين مقتصرا على التجار ورجال الأعمال العرب، وفي السلالة الثالثة، وعندما وصل المغول بغداد 1258م استقدم الصينيون العمال والحرفيين والجنود من بلاد العرب.

وقد أمضى المؤرخ “وانغ منغ” فترة في الفصل بين الحقيقة والخيال في قصة الإسلام في الصين، وكان اعتنق الإسلام ودرس خمس سنوات في مصر، وفي رأيه فهنالك حدثان رئيسيان لدخول الإسلام إلى الصين، أولهما تمرد “آن لوشان” خلال عهد سلالة “تانغ”، حيث طلب الإمبراطور “لي هانغ” من الخليفة أن يمده بـ20 ألف جندي مسلم لقمع التمرد.

يقول: أقام المسلمون في مديتة شيان لحفظ الأمن، واستقروا في الصين وتزوجوا من فتيات “الهان”. أما الحدث الثاني فكان حملة جنكيز خان وقوبلاي خان باتجاه الغرب، وبعد إخضاع بغداد وسوريا تأثر أبناء قوبلاي بالإسلام واعتنقه ثلاثة منهم، وأشهرهم الذي حكم منطقة “تانغو” وسميت لاحقا “شيشيا”، وفيها مدن سيشوان وشنغهاي الحاليتان، واعتنق معه آلاف الجنود الإسلام.

ضريح سعد بن أبي وقاص.. مقبرة مقدسة في غوانغتشو

توجد اليوم في عدة مدن صينية علامات تدل على ماض إسلامي عريق وحاضر راسخ، والدليل هي المقابر القديمة التي تعود لقادة وإداريين مسلمين. فهذه مقبرة “رينكسان” المقدسة التي تقع على إحدى التلال في المدينة الساحلية “غوانغتشو”، يقدسها المسلمون ويزعم بعضهم أنه رأى أنوارا تنبعث من قبورها، بل ويعتقد بعضهم أن أحد القبور يخص الصحابي سعد بن أبي وقاص، وهو ما تعارضه الحقائق التاريخية.

يقال إن سعد بن أبي وقاص قد وصل “غوانغتشو” رسولا من النبي محمد صلى الله عليه وسلم عام 632م لنشر الإسلام في الصين، وحسب الرواية الصينية المحلية فقد وضع سعد رضي الله عنه حجر الأساس لمسجد “هوايشنغ” -ومعناها (في ذكرى رجل الدين)- ولمنارته التاريخية، وهو معلم راسخ يدل على استمرار الإسلام في الصين كل تلك القرون، وقد ذكره ابن بطوطة في رحلاته خلال القرن 14م.

مسجد الصحابي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه والذي يعتقد بأنه كان رسول الدين إلى الصين

استمر وجود التجار العرب منذ ذلك الزمان، وكانوا يقومون بإمامة المسلمين الصينيين وتعليمهم وإدارة شؤونهم، وكان ذلك بموافقة الإمبراطور الذي أحب الإسلام وسمح بممارسة شعائره، مع أنه لم يسلم. وكان المسجد مركزا للشؤون الاجتماعية بالإضافة لكونه مكانا للعبادة، وقد أقيمت حوله المتاجر وازدهرت الحياة الاقتصادية التي استمرت حتى يومنا هذا في بيع البضائع الحلال.

بقي مسجد “هوايشنغ” ثابتا في وجه الاضطرابات، على الرغم من هدم آلاف المساجد الأخرى في أنحاء الصين، جراء الحروب والأيديولوجيات المختلفة التي حكمت الصين. والداخل إلى ضريح الصحابي سعد بن أبي وقاص يشعر وكأنه في مركز إسلامي دولي، فحوله يجتمع مسلمون من كل أنحاء العالم.

مسجد “هامبان”.. مزار على هيئة المعابد الصينية

تعتبر غوانغتشو الآن من أكبر مدن الصين، وقد حرص سكانها البالغ عددهم 10 ملايين على جعلها مدينة عصرية، وفي هذه المدينة يقطن 50-60 ألف مسلم، نصفهم من الأجانب. وعلى الرغم من أن المدينة قد فقدت مكانتها كمركز إسلامي، فإنها لا تزال تحتفظ بأهميتها كموطن لأهم رجل مسلم (سعد بن أبي وقاص) حسب الرواية الصينية، فيما تؤكد الرواية العربية أن وفاته ودفنه كان بالمدينة المنورة.

وأما مسجد “هامبان” الذي بني في عهد أسرة “مينغ” عام 1465، فقد بني من الخشب المستورد، ولا تزال رسوماته سليمة حتى الآن، وهو مبني على طراز المعابد الصينية، وهو قريب من ضريح سعد بن أبي وقاص، بحيث يصلي فيه المسلمون ويتوجهون إلى الضريح مع ما يرافق ذلك من طقوس إيقاد البخور، والأدعية الخاصة مع الخشوع والبكاء.

قبر الصحابي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في مدينة تشانغ

خارج الضريح يوجد مجموعة من القبور لقادة صينيين مسلمين، يؤمها الصينيون في جو مفعم بالوقار والرهبة، ويؤدون صلوات وأدعية يعتقدون أنها مستجابة في تلك الأجواء الروحانية. وعلى القبور شواهد كُتبت عليها بالصينية والعربية نبذة عن سيرة صاحب القبر. وعلى الرغم من أن العرب والمسلمين ما زالوا يؤمون غوانغتشو، فإنها فقدت مكانتها المرموقة كمركز للمسلمين.

أدت مدينة تشانغ (شيان) دورا هاما في تطور الإسلام في الصين وكذلك غوانغتشو ويانغتشو، فهنالك كثير من مساجد المسلمين القديمة ومقابرهم وأضرحة حكمائهم. وبسبب سياسة الصين المغلقة، وانقطاع التجارة البحرية، فقد انقطع الاتصال مع العالم الإسلامي وفقد كثير منهم عقيدته، وعلى الرغم من أن مدن الساحل الجنوبي الشرقي للصين ساهمت في دخول الإسلام فإنها لم تسهم في تطوره.

مدينة سيان.. المحطة الأولى للإسلام على طريق الحرير

في شمال الصين توجد محطات توقف على طريق الحرير البري، مثل مدينة “بوتشانغ” في منطقة الحكم الذاتي “لينغتشا”، ونصف سكانها من المسلمين، وهي تشتهر ببيع منتجات (الحلال). أما أبرز مدن طريق الحرير فهي “سيان” التي كان اسمها “تشانان”.

وقد ذكرت كتب التاريخ طريق الحرير في عهد أسرة تانغ، حيث سوق “داتانغ” في مدينة “شانغان” الذي يعد مركز تجارة دوليا الآن، وقد شارك الفرس في تلك السوق، وذُكِروا في شِعر “لي باي”، وقد جلبوا معهم العادات والأطعمة الفارسية التي تقبلها الصينيون.

أما “سيان” الحديثة فتفتخر بأنها من أقدم مدن الصين وواحدة من أربع عواصم البلاد، ففيها معبد الإوزة الذي بني خلال حكم أسرة تانغ عام 652م، ومن أهم وظائفه المحافظة على تماثيل بوذا، ولها صلات قوية مع الإسلام أيضا. فقد كان التجار العرب يدفعون للإمبراطور مقابل استخدام طريق الحرير البري. وقد تزوج كثير منهم فتيات صينيات وأنجبوا أطفالا واستقروا هناك.

لا تزال بعض الأضرحة تحمل النقشين العربي والصيني دلالة على الذين قدموا الصين يحملون الإسلام

ويبلغ عدد المسلمين في سيان 60 ألفا، وهم من قومية “الهوي”، وتذكر وثائقهم أن معظمهم جاء من الشرق الأوسط؛ من العرب والفرس والمغول الذين أسلموا، بينما معظم الصينيين من قومية “الهان”. وتوصف قومية “هوي” بأنهم مسالمون، وأنهم اندمجوا بسلاسة مع قومية “الهان”. وتفتخر سيان بمساجدها العتيقة وأشهرها الجامع الكبير الذي بني في القرن السابع الميلادي.

وهناك مسجد “دا شوي سي” الأقدم، بناه العرب في عهد أسرة تانغ. وقد ارتبطت سيان بالعالِم المسلم الرحّالة “تشينغ هي”، الذي اختار إمام مسجد “دا شوي سي” ليكون داعية له على سفنه، وقد ترك الرحالة نقشا فولاذيا في سيان عندما زارها. وتشتهر سيان بسوقها الإسلامي لبيع الطعام الحلال ولوحات الخط والزخارف الإسلامية.

الجاهاريا والخوفيا.. طرق صوفية تسيطر على التدين الصيني

يدين معظم مسلمي الصين بالإسلام السني، ويتبعون طرقا صوفية عدة تسمى “منوان”، وتصل إلى 50 طريقة، وأشهرها أربعة. ومن أجل معرفة المزيد عن هذه المدارس (المنوان) سنذهب إلى شمال الصين عبر المناظر الخلابة على طريق الحرير لنصل إلى مدينة نينغسيا التي تتمتع بالحكم الذاتي، حيث 90% من سكانها مسلمون، وهي مركز لأهم الطرق الصوفية الأربعة؛ “الجاهارية” التي تدعو إلى إنشاد ذكر الله.

يقال إن الجاهارية جاءت من اليمن، ونشرها “مامينغسي” الذي درس القرآن في اليمن، في عهد أسرة “تشينغ”، وامتدت فيما بعد في كل شمال غرب الصين، وتوارثت الأجيال طريقته في قراءة القرآن على مدى 500 عام.

يتبع مسلمو “البنكتشا” في مقاطعة نينغتشا طريقة “الخوفيا” الصوفية، وهي فرع صيني للطريقة النقشبندية

ومع أن كثيرا منهم سافروا إلى الدول الغربية والإسلامية، فإنهم لم يغيروا طريقتهم في قراءة القرآن الذي كتبت نُسَخه بخط اليد. وبالإضافة إلى محافظتهم على الطريقة التقليدية في الذكر فهم حريصون على مظهرهم الخارجي، ويحلقون جانبي لحاهم تكريما لمؤسس الطريقة، ذلك أن جنود الملك “تشينغ” كانوا قد حلقوا لحيته بنفس الكيفية عندما أعدموه.

يعيش مسلمو “البنكتشا” في مقاطعة نينغتشا، وينحدرون من نسل عربي عريق، ويعيش في قرية ناجيا 5000 نسمة منهم، ويتبعون طريقة “الخوفيا” الصوفية، وهي فرع صيني للطريقة النقشبندية، ومؤسسها “مالاياتشي” من قومية “الهوي”، وأسلوبها في الذكر صامت، بعكس الجاهارية.

يقول المعمر “تشينغ” من سكان ناجيا إن جده انتقل إلى هنا من مصر واسمه “سيد”، وهو الحفيد الـ27 للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأصله من مملكة بخارى، وكان قد نَصَرَ (قوبلاي خان) على أعدائه فولّاه على “تشانغسي” مكافأة له. ويُذكَر أن قومية “الهوي” هم أحفاد سيد أجيال شمس الدين عمر، وكان اسم ابنه “ناسولادينغ” المأخوذة عن ناصر الدين، وأصبحت فيما بعد أسماء خالصة لقومية “الهوي”.

معمار المساجد.. مزيج الثقافة العربية والشخصية الصينية

لكل مسجد في الصين حكاية، فالمساجد أعمال فنية مبهرة تختلط فيها الثقافة العربية بالشخصية المعمارية الصينية، ورغم ندرتها في المدن الصينية، فإن المساجد تبقى البناء الديني الوحيد الذي يمثل عراقة الإسلام واستمراره في تلك البلاد، وهو الرمز الاجتماعي الذي يلتقي عليه المسلمون الصينيون.

ولا يتصف المجتمع الصيني المعاصر بطابع ديني خاص، فقبل 30 عاما لم تكن الصين تشجع أي دين يعتمد على الإيمان، لا على تقديس السلف وتعظيمهم. ومع اعتراف الصين رسميا بحرية ممارسة الأديان، وجدت في السنوات الأخيرة صحوة دينية لجميع الديانات.

تتميز مساجد الصين باختلاط الثقافة العربية بالشخصية المعمارية الصينية فيها

يقول الحاج باي، وهو أحد أشهر المصورين المسلمين، وكان حريصا على توثيق معظم المعالم والمناسبات الإسلامية الصينية: “عاش الإسلام فترتين ذهبيتين، الأولى في عهد أسرة يوان، والثانية هي الفترة الراهنة، بعد انفتاح الصين على العالم، فقد فتح الكثير من المساجد التي كانت مغلقة”. ويحرص على تصوير المساجد التي ما يزال طرازها المعماري يشهد على تراث الإسلام الراسخ في الصين.

الخط العربي.. رسالة الإسلام الجمالية للصينيين

يقطن في مدينة “تشينتشو” وسط شمال الصين 30 ألف مسلم، وقد أصبح الإسلام مهيمنا على فن الخط الصيني بشكل كبير، وهنالك إقبال على تعلُّمه. فهذه “مافولينغ” المنحدرة من أسرة مسلمة التحقت -بعد إحالتها على التقاعد- بمدرسة لتعليم اللغة العربية وخطوطها، وهي فخورة بالأعمال الفنية الجميلة التي أنجزتها.

ويشرف على تعليم الخط الحاج نورالدين، الخطاط الشهير والشخصية النافذة في المجتمع الإسلامي هناك، حيث يقول: يقترن الخط العربي في رأيي بوجود الإسلام في الصين، فقد حرص المسلمون منذ القدم على تزيين جدرانهم بلوحات الخط العربي، كبديل عن التماثيل المحرمة.

كلمة “نينغ” مكتوبة على إحدى محطات القطار، وتعني (السلام) بالعربية

ويقول: في 2004 كنت أفكر في طريقة للجمع بين الخط العربي والصيني، فرأيت كلمة “نينغ” مكتوبة على إحدى محطات القطار، وتعني (السلام) بالعربية، فلمعت في ذهني فكرة أن أجمع بين الكلمتين في لوحة واحدة، ونجحت الفكرة نجاحا باهرا، وها هي اللوحة الآن في متحف جامعة هارفارد.

مسلمو الإيغور.. تهافت المزاعم الحكومية بحرية التدين

كلما اتجهنا شمالا وغربا تتغير طبيعة الإسلام في الصين، فهذه مقاطعة سينجيان الغربية التي تشترك حدودها مع الهند وباكستان وآسيا الوسطى وروسيا ومنغوليا، ويقطنها 8.3 مليون نسمة، وهم من “الإيغور” ذات الأغلبية المسلمة، وقد انتقل إليها مؤخرا ملايين الأشخاص من الهان في خطوة غير بريئة أقدمت عليها الحكومة الصينية لتغيير التركيبة السكانية.

ويسعى الإيغور لممارسة شعائرهم وتقاليدهم الإسلامية بحرية، وهو ما تعارضه الدولة.ففي يوليو/تموز 2009 حدثت اشتباكات في العاصمة “أورونكي” راح ضحيتها 97 شخصا معظمهم من الهان، مما أدى إلى إغلاق المساجد وطلب من المسلمين الصلاة في مساكنهم، هذا على الرغم من مزاعم الدولة الصينية باحترام حرية جميع الأديان.

يتوزع المسلمون في الصين على أكثر من 12 قومية

وينقسم المسلمون في الصين إلى الناطقين بالصينية والناطقين بلغة التوركيك. وفي سنجيان هنالك ست قوميات هي: الإيغور والخزر والطاجيك والأوزبك والقرغيز والتتار، وكل هؤلاء لا يجدون صعوبة في التحدث بالصينية، ولكنهم لا يفهمون ثقافة الهان ولا الهوي. علما بأنه يعيش في الصين 56 عرقا متعدد الثقافات والانتماءات.

ويوجد في العاصمة نينغسيا أكبر عدد من المساجد في الصين، فعدد سكانها 250 ألفا نصفهم من المسلمين، ولها دور في تقدم الإسلام في الصين، فهي من أهم محطات طريق الحرير في عهد أسرة “سونغ” قبل ألف عام. ومن أشهر دعاتها “ماليتشي” الذي أسلم على يديه العديد من سكان التبت، وهي مدينة تعج بالمظاهر الإسلامية؛ من العمارة إلى الأطعمة وحتى أزياء الرجال والنساء.

نينغسيا.. قصيدة مديحية في مكة الصين الصغرى

يطلَقُ على نينغسيا لقب مكة الصين الصغرى، ومن أهم معالمها مسجد “هُوا سي” الذي بني قبل 630 سنة في عهد الإمبراطور”هونغ وو” من سلالة “مينغ”، ويضم بين جنباته ضريح الداعية “ماليتشي”. وتشتهر المساجد هناك بالزخارف والمنحوتات الإسلامية المميزة التي امتدت لتزين المساكن الخاصة أيضا.

وتتميز مساكن المسلمين بكثرة الزخرفات والمنحوتات الإسلامية فيها، وهي مساكن مستقلة تحوي ردهات كثيرة وفناء واسعا يحوي حديقة جميلة، ويلتزم المسلمون فيها بأداء الشعائر وتربية أبنائهم على تعاليم الإسلام.

مسجد “هُوا سي” في نينغسيا الملقبة بمكة الصين الصغرى لتوافد المسلمين على مسجدها للصلاة فيه

ولا يكاد يخلو بيت من منحوتة تمثل قصيدة من مئة كلمة تنسب إلى الإمبراطور، وتتحدث كلماتها عن رجل عربي كريم حكم العالم بالعدل، ويستدل بها أهل المدينة على أن ذلك الإمبراطور كان مسلما، وكان يتحدث في قصيدته عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

وفي لينغسيا أربع قوميات مسلمة هي: الهوي والباوان والسالار والدونغسيانغ، وهذه الأخيرة لها لغتها الخاصة وعاداتها المنغولية المختلفة، فقد اعتنق أهلها الإسلام في القرن 13م نتيجة تواصلهم مع سكان آسيا الوسطى. وتتميز الأطعمة في لينغسيا بطابعها الإسلامي، وتعتمد لحم الخراف في أطباقها الرئيسية، وتشتهر المدينة بصناعة السكاكين الخاصة بالذبح.

شنغهاي.. مظاهر التدين في أكبر تجمع للمسلمين

هنالك إقليم آخر يتميز بكثرة عدد المسلمين فيه، وهو إقليم شنغهاي الأكثر تمدنا، وهو محاط بالتبت وقانصو وسينجيان. وكغيره من الأقاليم تحدث فيه اشتباكات بين المسلمين وغيرهم. وفي مدينة تسيننغ التي هي عاصمة إقليم شنغهاي يقطن مليون مسلم يمثلون خُمس سكان المدينة. ومثل باقي مسلمي الصين يلتزم المسلمون هنا بأركان الإسلام الخمسة ويحافظون على شعائر الإسلام.

تعالوا نعش أجواء أواخر شهر رمضان لسنة 1430هـ وعيد الفطر مع عائلة السيد “ماليانغ وو” الذي يسكن العاصمة تسيننغ، وهو من قومية “الهوي”. فهذا آخر يوم في رمضان، وتقضيه العائلة في أعمال التنظيف والتسوق وإعداد الأطعمة والحلويات المختلفة ليوم العيد، ثم تأتي الفرحة الغامرة في يوم العيد وأيام العطلة الثلاثة التي سوف يستمتعون بها بعيدا عن أجواء العمل.

ابتهاجا بقدوم العيد، يتحضر المسلمون في الصين بشراء الحلوى

تضطر المرأة المسلمة للعمل في ذلك الإقليم، فالتكاتف مطلوب بين الرجل والمرأة لتعزيز الموارد والقيام بأعباء البيت، وتقوم “آيلينغ” شقيقة ماليانغ بإدارة محل بيع جملة مثل أخيها، وهي اليوم تغلق متجرها مبكرا من أجل العودة للبيت والقيام بمستلزمات يوم العيد، وإعداد الوجبة الرئيسية المكونة من الأرز والخضار المسلوقة ولحم الخراف.

في صباح العيد يقوم الابن الأكبر بقص شعر والده، وهذه عادة يتوارثها المسلمون هناك لتوقير الوالد، ولاعتقادهم أن الحلاقة والنظافة هي من السنن التي حبّب فيها رسول الإسلام الكريم. وفي يوم العيد يحرص الجميع صغارا وكبارا على النظافة وارتداء الملابس الجديدة، احتفاءً وفرحا بهذا اليوم العظيم. ويحرصون على تناول أنواع التمور في الصباح اقتداءً بسنة الرسول الكريم.

احتفالات العيد.. مشهد مهيب يوحد أكثر من 12 قومية

يتوجه الرجال في يوم العيد إلى مسجد “دوانغ قوان” لأداء الصلاة، وهو الجامع الذي يجتمع فيه أكثر من 95% من مسلمي شانغهاي، في مشهد مهيب وتعظيم لله عز وجلّ، حيث يفترش ساحات المسجد والطرقات المجاورة على مدّ البصر أكثر من 170 ألف مسلم قدموا لأداء صلاة عيد الفطر، وتجتمع أكثر من 12 قومية في صلاة واحدة لإله واحد، يخشعون ويبتهلون، ثم يقبلون على بعضهم ويهنئون أنفسهم بالعيد.

وهم يستشعرون عظمة الله في ذلك اليوم ورقابته عليهم، ويعاهدون أنفسهم أن يخرجوا من رمضان بقلوب نظيفة خالية من المعاصي والآثام، وأن لا يعودوا إليها ثانية، ثم ينطلقون في مشهد عظيم آخر إلى بيوتهم، حيث يزورون أصدقاءهم، ويتناولون صنوف الطعام والحلويات في بهجة وسعادة قلما تجدها في أيام السنة الأخرى.

منزل السيد”تشينغ” حيث يحتفلون بعيد الفطر وبإسلام “أمينة”

وهنالك سبب آخر لهذا الاحتفال المهيب في منزل السيد”تشينغ” غير مناسبة عيد الفطر، فإحدى المدعوات قد أعلنت إسلامها بالأمس على يد “تشينغ” وغيرت اسمها إلى “أمينة”، وهي من قومية الهان. وقد كانت حياتها قبل الإسلام مثل بقية فتيات الصين، تذهب للحانات وتمارس السباحة وترتدي الملابس المكشوفة، أما الآن فقد ارتدت الحجاب ولم تعد تمارس تلك الأشياء.

تاريخ غني، وخلفية ثقافية واختلافات عرقية وصراعات كثيرة، وفي النهاية تجمع كل ذلك عقيدة واحدة للمسلمين، وعلى الرغم من القوى السياسية والاجتماعية التي تهدد أحيانا بعرقلة إيمان المسلمين الصينيين، فإنهم استطاعوا أن يحافظوا على إيمانهم عبر أكثر من 1300 عام، وسر نجاحهم هو ذلك الاتحاد الذي يبدونه في وجه التنوع الهائل في الصين.