سفن الاستكشاف.. كابوس استعماري قذفته أمواج البحر على السواحل الأمريكية

مع غروب شمس آخر الممالك الإسلامية في الأندلس، انفجرت شهية الدول الأوروبية -لا سيما إسبانيا والبرتغال- لالتهام العالم، قديمه وجديده، متسلحين بذرائع شتى، منها ما هو ديني لنشر المسيحية بمذاهبها المختلفة، وما هو اقتصادي لنهب خيرات البلاد المحتلة، من أجل إشباع نهم الآلات التي أنتجتها الثورة الصناعية في أوروبا.

وكان يغلِّف هذه الأطماع شعور بالتفوق العرقي للجنس الأبيض، وحقه في استعباد الشعوب الأخرى ونهب ثرواتها، بحجج مختلفة وذرائع واهية، منها التبشير بالمسيحية أو الرغبة في تعليم هؤلاء “الجهلة”، ونشر القيم الأوروبية “النبيلة” بينهم.

زواج الملوك.. تحالف صنع أعظم إمبراطورية استعمارية في العالم

يقع شبه جزيرة أيبيريا جنوب غرب القارة الأوروبية، ويحدها من الغرب ساحل طويل، يمتد جنوبا نحو القارة الأفريقية المجاورة، وهي منطقة تشجع التجارة، ومملكة هشة اشتعلت فيها الحروب الدينية، ونشبت على أراضيها صراعات الحضارة والمعتقدات، بين المسلمين والمسيحيين الكاثوليك.

“إيزابيلا الأولى” ملكة قشتالة تعزز نفوذها بالزواج من “فرديناند الثالث” ملك أراغون

وقد كانت البيئة السياسية في أيبيريا في القرن الـ15 شديدة التعقيد، فهنالك ثلاث ممالك مسيحية؛ هي البرتغال وقشتالة وأراغون، ولم يكن اسم إسبانيا قد ظهر آنذاك، فهو مصطلح روماني قديم يعود إلى الكلمة اللاتينية “هسبانا”، ولم يستخدم بمفهومه الحالي إلا بعد قرون عدة.

اعتلت “إيزابيلا الأولى” عرش قشتالة، وعززت نفوذها بالتحالف والزواج من “فرديناند الثالث” ملك أراغون، وبذلك اتحدت المملكتان لتكونا نواة لمملكة إسبانيا، وهو حلم “إيزابيلا” لتوحيد شبه الجزيرة الأيبيرية تحت حكم واحد وعقيدة واحدة، والقضاء على آخر ما بقي من الممالك الإسلامية جنوب الجزيرة، فانطلقا في حرب أسمياها “الاسترداد”.

في حرب “الاسترداد”، سقطت في عام 1492 غرناطة آخر الممالك الإسلامية في يد “إيزابيلا”

في 1492، سقطت آخر الممالك الإسلامية غرناطة في يد “إيزابيلا”، وكان إخلاصها للمسيحية الكاثوليكية بلا حدود، وحلمها يتعدى إسبانيا إلى عالَم واحد ذي ديانة واحدة، فانتشرت في أنحاء إسبانيا محاكم التفتيش، لإجبار من بقي من المسلمين واليهود على اعتناق المسيحية أو مغادرة أرض إسبانيا، ومراقبة سلوك المتنصرين الجدد.

وكان مفهوم الدولة الحديثة بتنوعها الثقافي والفكري والعقدي آخر ما تفكر به “إيزابيلا”، وبدلا من ذلك كان تؤمن بفكرة الحاكم الواحد والديانة الواحدة واللغة الواحدة.

ضرائب العثمانيين.. بداية البحث عن الطرق البديلة إلى آسيا

حين شكلت إسبانيا إمبراطوريتها القوية، كانت بيزنطة في الشرق تترنح تحت ضربات العثمانيين، فصارت طرق التجارة من آسيا إلى غرب أوروبا مهددة بالخطر، فقد فرض العثمانيون ضرائب جديدة على العبور، زادت تكلفة البضائع الآسيوية الفاخرة على الأوروبيين.

ولم يبق أمام أيبيريا إلا خيار واحد، وهو التوجه نحو البحار، وبهذا بدأ قرن من الصراع الجديد بين إسبانيا والبرتغال، إنه عصر الاستكشاف، وكانت البرتغال هي التي مهدت أمام الأوروبيين عبور الأطلسي، بعد إيجادها الطريق الأطلسي بمحاذاة السواحل الأفريقية، بالتوجه جنوبا حول القارة الأفريقية، ثم شرقا باتجاه آسيا.

الإمبراطورية العثمانية تيسطر على طرق التجارة بين آسيا وغرب أوروبا

ومن هذه الطريق وُلد أحد أشد المشاريع البشرية قتامة، وهو تجارة العبيد، وكان سبقها جلب العبيد من القوقاز وبحر قزوين على نطاق أضيق، ولكن الرقيق الأبيض اضمحل بسقوط الإمبراطورية البيزنطية، وأصبح ارتباط السواد بالعبيد وأفريقيا هو السائد في مخيلة الأوروبيين.

وأمام هذه الريادة البرتغالية، كان على إسبانيا إيجاد طريقة لمنافسة البرتغال، وقد أرادت “إيزابيلا” أن توفر لمملكتها حصة أوفر من عائدات التجارة عبر الأطلسي. وقد كانت المحيطات لغزا مرعبا، وكان المكتشفون يعتمدون على جرعة من الحظ في خوض هذا المجهول، والبحارة معرضون للموت بسبب مرض الإسقربوط، نتيجة نقص الفيتامينات من الخضر والفواكه.

“كريستوفر كولومبوس”.. تاجر مغامر يغري أطماع الملكة الطموحة

لم تنتظر “إيزابيلا” طويلا، وسنحت لها الفرصة عبر رسّام خرائط وتاجر مغمور إيطالي الأصل، تقطعت به السبل بعد هجوم القراصنة على سفينته، وقد وجد نفسه في جنوب غرب البرتغال، وبقي يعمل هناك إلى أن أتيح له أن يلتقي الملكة “إيزابيلا”، ذلك اللقاء الذي سيغير وجه التاريخ البشري على الأرض.

كان “كريستوفر كولومبوس” ملّاحا خبيرا بطرق الأطلسي، وكان مثل غيره يتطلع لاستيراد البضائع من خارج أوروبا، وكانت لديه فكرة مفادها أنك إذا توجهت إلى الغرب فتصل يوما ما إلى الشرق، وقد حاول أن يقنع بها ملوكا كثيرين من أوروبا، ولكنه لم يفلح.

“كريستوفر كولومبوس”.. اختيار “إيزابيلا الأولى” ملكة قشتالة لغزو آسيا

كان الأوروبيون يتخيلون خارطة العالم دائرة من ثلاثة أقسام، تمثل الكتل القارّية آسيا وأفريقيا وأوروبا، وكانت لديهم في ذلك الوقت خرائط “بورتلان” ذات الدقة المذهلة في الخطوط الخارجية لقارة أوروبا والموانئ والطرق التي كانوا يسلكونها، وفيما عدا ذلك، كان العالم الخارجي مجهولا لديهم.

وكانت الخرائط آنذاك من أسرار الدولة، وكانت العقوبة تصل إلى الإعدام بحق من تثبت عليه تهمة تسريب الخرائط خارج المملكة، وكانت الخرائط كذلك من الوثائق السياسية المهمة التي تثبت المجال السيادي لدولة ما، ناهيك عن كونها عملا فنيا مرموقا يتحمل محترفوه مسؤولية كبيرة عن دقة ما يرسمونه.

الخرائط كانت وثائق سياسية مهمة تثبت المجال السيادي للدول القديمة

وقد كانت لدى البحارة والمستكشفين فكرة أن العالم مستدير، ويحتل المحيط معظم مساحته، أما “كولومبوس” فكان يتخيله أصغر حجما، ورأى أنه يستطيع الإبحار غربا حتى يصل إلى آسيا، ولكنه لم يأخذ في اعتباره أنه سيعرّض بحارته للموت بسبب الإسقربوط، إن هو أصر على تلك الرحلة، لقد كان عنيدا وماضيا في قراره، وهو الأمر الذي راق للملكة “إيزابيلا”.

“لن تقوم القيامة حتى يتوحد العالم على الكاثوليكية”

كانت لدى إسبانيا أهداف دينية عميقة، مع حضور البُعد الاقتصادي، “فالقيامة لن تقوم حتى يتوحد العالم على الدين الكاثوليكي” كما زعمت “إيزابيلا”، وهكذا وُقّع العقد مع “كولومبوس”، وكان يضمن له ألقابا وأرباحا محددة إذا نجح في تنفيذ التزاماته في العقد، وهي الوصول إلى آسيا، وإلا فسوف يتكبد خسارة مالية ضخمة، ثم يُذَل علنا أمام الملأ.

“سانتا ماريا” و”نينيا” و”بينتا” هي سفن كولوموس الثلاث التي اكتشف بها جزر الكاريبي

قرر “كولومبوس” اجتياز هذه المسافة الشاسعة بجيش من البحارة البسطاء، تطاردهم ذكريات زملائهم ممن قضوا حتفهم في المحيطات مجهولة الأعماق، وثلاث سفن متواضعة هي “سانتا ماريا” و”نينيا” و”بينتا”. وتحمل “سانتا ماريا” 300 متر مربع من الأشرعة و3 آلاف متر من الحبال و100 برميل من الطعام والمعدات، وأما السفينتان الأخريان فكانتا أصغر حجما.

في أوائل أغسطس/ آب 1492، أبحر “كولومبوس” ومعه 90 بحارا منهم العمال المهرة والأطباء والصاغة، وكانت أجورهم مجتمعين تعادل 12500 دولار عن كل شهر يقضونه في البحر، ولم تكن لهم فكرة عن المدة التي سيقضونها بعيدا عن الأوطان والأهل.

رحلة المجهول.. مغامرة في أعالي المحيط الأطلسي

كان ربابنة السفن -من قبل “كولومبوس” ومن بعده- يبحرون بتقنية “تقدير الموضع”، وذلك بتحديد نقطة مرجعية وتوجيه البوصلة إلى نقطة الوصول، ثم تحديد الموقع المرحلي على الخرائط، وكان هذا ناجحا في المسطحات المائية الصغيرة كالبحر المتوسط مثلا، أما في المحيطات فكان لا بد من تطوير تقنية تحديد خطوط العرض، لتحديد المسافة بين النقاط شمالا وجنوبا.

الأسطرلاب واحد من أدوات الملاحة البحرية الرئيسية

وقد ساعد الأسطرلاب على تحديد خطوط العرض بشكل تقريبي، أما خطوط الطول المتقاطعة مع خطوط العرض، فقد اكتُشفت في القرن الـ18، وهي تعتمد على الوقت، ولم يكن قد تسنى تحديده بدقة إلا في القرن الـ19.

ومع مرور الوقت تحول الضجر إلى توتر، وعانى البحارة من نقص الأغذية، وزادت الشكوك في أن قائدهم الشجاع يقودهم إلى اليابسة، أما “كولومبوس” فقد تجنَّب تمردا كبيرا وأقنعهم ببصيص من الأمل، عندما رأى الطيور تحلق فوق رؤوسهم، فهل يعني ذلك أن اليابسة اقتربت.

منطقة الكاريبي.. نقطة من اليابسة تلوح في الأفق

في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 1492، رأى “كولومبوس” نقطة في الأفق، لم يعرف كُنهها، لكن المؤكد أن أحدا قبله لم يكن قد أبصر جزر الأنتيل الكاريبية، والأهم منها قارة أمريكا الشمالية.

“كولومبوس” يرى جزر الأنتيل الكاريبية

منطقة الكاريبي هي مجموعة من الجزر سكنها شعب “التايينو”، وكانوا يدفعون الجزية إلى نبلائهم “الكاسيكوس”. وهم مجتمع زراعي يعبد منحوتات أرضية، وكانوا يعملون في صيد الأسماك والتجارة، ولهم طقوسهم الاجتماعية في الزواج والتحالف بينهم، ولكن لم يصل عنهم الكثير لأنهم لا يعرفون الكتابة.

وكانوا يتواصلون فيما بين جزرهم، فقواربهم السريعة المحفورة في جذوع الأشجار كانت تسهل لهم الوصول إلى الجزر الأخرى بحمولة تصل إلى 150 راكبا في القارب الواحد.

لم يُعرف على وجه التحديد مرسى سفن “كولومبوس”، ويتصور أنها رست في ميناء سان سلفادور، لكن المؤكد أنهم شعروا بسعادة غامرة عندما وصلوا إلى اليابسة، وكانوا قد حسبوها الشرق الأقصى، وعنما رأوا شعب التايينو حسبوا أن كل الأخطار التي واجهتهم في رحلتهم ستتلاشى أمام الثروات التي سيجنونها.

اللقاء الأول بين كولومبوس وشعب التايينو

وهناك روايات عن لقاءات جيدة، شابها الفضول المتبادل بين “كولومبوس” وشعب التايينو، كما دوّن في بعض يومياته، لقد كانوا بسطاء ومثاليين للغاية مثل الأطفال السذج، وقد كتب أن التغلب عليهم يسير، في سبيل استعبادهم واستغلالهم لمجد إسبانيا. والفرق الرئيسي بين الفريقين هو التكنولوجيا، فالسفن والأسلحة الإسبانية تتفوق كثيرا على المعدات البدائية التي طورها شعب التايينو.

كوبا وهيسبانيولا.. أمواج المحيط تهدي الاكتشاف الأعظم

كان “كولومبوس” المستكشف المنتفخ ثقة، يمنّي نفسه بالوصول قريبا إلى جزيرة “زيبانغو” (اليابان حاليا)، أو ميناء “سايتونغ” الأسطوري الصيني، ولكن الأمواج جرفته حتى وصل في 5 ديسمبر/ كانون الأول إلى كوبا، فوصل إلى ما سيعد أهم اكتشاف له، وهو جزيرة “هيسبانيولا” (هاييتي حاليا)، واستطاع التواصل مع أحد زعمائها.

وصول كولومبوس إلى جزيرة هيسبانيولا المكونة اليوم من هاييتي والدومنيكان

لكنه كان بحاجة لمترجمين، فأسر بعض التايينو، وحاول تعليمهم الإسبانية للتواصل مع الزعماء، وللحصول على معلومات تدلهم على ثروات البلاد، وقد سماهم هنودا متوهما أنه وصل إلى جزر الهند الشرقية، ثم تبين له فيما بعد أن تلك الشعوب متنوعة ومختلفة، فأراد هو ومن وراءه من المستكشفين الإسبان أن يستغلوا هذا التباين، لنيل مزيد من الثروات ونقلها إلى إسبانيا.

أبدى النبلاء الكاسيكوس نوعا من الحذر تجاه الإسبان، لا سيما بعد أسرهم عددا من التايينو، لكن النبلاء لم يكونوا متفقين في كل شيء، وكان بينهم نزاعات على السلطة في جزيرة هيسبانيولا، ففكر بعضهم في التحالف مع الوافدين الجدد، لعل ذلك يغير لعبة السلطة في الجزيرة.

وقد اختار “خوان كانغاري” -وهو أحد الكاسيكوس- فتح قنوات اتصال مع “كولومبوس”، فأتاح له ذلك مزيدا من المساحات في هيسبانيولا لاكتشافها، لكنه بدأ يشعر بالذعر من أنه قد لا يكون في آسيا على الإطلاق، وكان عليه اختلاق الأخبار لإرسالها إلى الوطن، وحصل على بعض الحليّ والبضائع الأخرى من السكان المحليين، وهو أمر يبشر بوجود الذهب في هذه الأرض.

وفرة الذهب والعبيد.. أكاذيب مغرية تخدع ملوك أوروبا

أرسل “كولومبوس” إلى الملوك يشرح لهم الثروات الوجودة في البلاد، والذهب المتاح في الجداول والأنهار، وصلاحية الأراضي الاستوائية للمحاصيل الأوروبية، وأن هناك كثيرا من الشعوب المحلية التي يمكن أن تعتنق المسيحية، وتكون خاضعة لسلطة إسبانيا بسهولة بالغة.

وقد رسم للملوك صورة وردية كاذبة عن مشاهداته في هذا العالم الجديد، بهدف إقناعهم بتمويل رحلة ثانية له، وكان لا يزال يصرّ على أنه وصل آسيا، وأن هذه الجزر التي رسا عليها تقع قبالة سواحل آسيا، وكان يدرك أنه لن ينال شيئا إلا بإقناعهم بذلك.

في رحلة العودة، اصطحب “كولومبوس” بعض السكان المحليين ليريهم للملكة ويبيعهم عبيدا في إسبانيا

ولكي يسترضي “إيزابيلا” أخبرها بجودة العبيد في هذا العالم وكثرتهم وذكائهم وصلاحيتهم ليكونوا قوة عاملة رخيصة الثمن لإسبانيا، وكان “كولومبوس” قد استفاد من رحلاته مع البرتغاليين إلى سواحل غانا في كيفية بناء معسكرات العبيد ونقلهم إلى أوروبا، وكذلك كيفية استثمار الأراضي الجديدة لتصبح مستعمرات إسبانية.

قرر “كولومبوس” العودة إلى إسبانيا، لمواصلة الضغط على الملوك لتسيير رحلة ثانية أضخم من الأولى وأكبر، وملأ سفينته “نينيا” بالبضائع والمشغولات اليدوية التي جمعها من أرض التايينو، وأبقى 39 من رجاله في جزيرة هيسبانيولا، وأمرهم ببناء حصن من حطام سفينته سانتا ماريا والاستيطان فيه، فبنوا قرية تسمى اليوم “لانافيداد”، أي عيد الميلاد، وتعد أول مستوطنة أوروبية في الأمريكيتين.

ميناء لشبونة.. استراحة كادت تشعل النار بين الممالك

في رحلة العودة اصطحب “كولومبوس” بعض السكان المحليين، ليريهم للملكة ويبيعهم عبيدا في إسبانيا، وقد رجع ببعض أنواع النباتات، في حين بقي البحارة الإسبان في هيسبانولا تحت حماية “خوان كانغاري”، لنيل الدعم والغذاء، وذلك تحالف حرص “كولومبوس” على استمراره، لمواصلة استكشاف الجزر ونهب ثرواتها.

كانت رحلة العودة عبر الأطلسي الهائج محفوفة بالخطر، وقد أجبرت السفينتين على الافتراق، فرست سفينة نينيا التي يقودها “كولومبوس” في ميناء لشبونة، ليظهر منها التاجر المغامر بطلا يوم 15 مارس/ آذار 1493، وسرعان ما انتشرت أخبار اكتشافاته المتوافقة مع رسائله في جميع أنحاء أوروبا.

لكن ملك البرتغال لم يكن بذلك السرور، وشعر بأن هذه الجزر “الآسيوية” الغامضة قد ادّعتها إسبانيا ادعاء غير قانوني، فأرسل إلى “إيزابيلا”: هل ترغبون بخرق اتفاق ينص على أن جميع الأراضي جنوب جزر الكناري برتغالية؟

البابا “ألكساندر السادس” قسم العالم إلى منطقتَيْ نفوذ بين الإسبان والبرتغاليين

كان البابا في القرون الوسطى يختص بفض النزاعات التي تنشب بين الممالك، وكان قلقا من نشوب نزاع بين مملكتين كاثوليكيتين عظيمتين مثل إسبانيا والبرتغال، ولذا تفاوض على إبرام تسوية بينهما.

وكانت مراسيم البابا “ألكساندر السادس” قد قسمت العالمَ إلى منطقتَيْ نفوذ بين الإسبان والبرتغاليين، ويفصل خط طولي من الشمال إلى الجنوب -يقطع أنف البرازيل مارا بالأطلسي الشمالي والجنوبي- منطقةَ نفوذ البرتغال على يمينه، عن مناطق نفوذ إسبانيا على شماله، وقد أُكد هذا الاتفاق بتوقيع معاهدة “تورديسياس”.

غطرسة الغرب.. نظرة فوقية تجعل الاستكشاف استعمارا

تلك النظرة المتغطرسة لم تكن منحصرة على الإسبان والبرتغاليين فحسب، بل إن إنجلترا وفرنسا وهولندا وبقية دول أوروبا كانت ترى نفسها حضارات متفوقة تقوم بما يحلو لها في العالم.

لم تكن رحلة “كولومبوس” الأولى ناجحة، إلا من حيث اكتشاف أراض جديدة كانت في متناول الأوروبيين، ولكنها مهدت لإمكانية عبور الأطلسي مرارا وتكرارا، ولم يتأثر البرتغاليون كثيرا بخطوة إسبانيا نحو العالم الجديد، فقد كانوا يحققون أرباحا هائلة من تجارتهم في غرب أفريقيا.

كان “كولومبوس” يعلم في قرارة نفسه أن اكتشاف الطريق إلى آسيا من جهة الغرب هو كذبة كبيرة، وأراد أن يستغل الدعم البابوي والملكي الكبير في إنجاز كبير يغطي سوأة كذبه، فتحول من الاستكشاف إلى الاحتلال، وأصبح قائدا عسكريا تسبب بمقتل آلاف السكان الأصليين، ومهّد لاستيطان الأوروبيين هذا العالم على حساب سكانه المحليين.