“معركة لتحرير جوليان أسانج”.. كفاح عائلة مؤسس “ويكيليكس” الذي يحاربه العالم

بعد أن كان غائبا عن الإعلام طوال أزمة ابنه “جوليان أسانج” مؤسس موقع “ويكيليكس”، اختار “جون” الرجل الأسترالي الذي تجاوز السبعين من العمر بقليل أن يظهر في الحياة العامة لأول مرة، ويقود الجهود الإعلامية والاجتماعية التي تحاول إنقاذ ابنه من مصير مشؤوم ينتظره، من عقوبات سجن بريطانية وطلبات أمريكية بتسليمه ومحاكمته على أرضها بتهمة التجسس.

يظهر “جون” في الفيلم الوثائقي “إيثاكا.. معركة لتحرير جوليان أسانج” (Ithaka: A Fight to Free Julian Assange) الذي أخرجه “بن لورانس”، ويفسر الأب قراره المتأخر بأن ابنه كان قادرا على الدفاع عن نفسه طوال سنوات محنته، لكنه بعد إلقاء القبض عليه في عام 2019، لم تعد لديه القدرة على الحديث بنفسه للعالم، لذلك حزم الأب أمره وقطع آلاف الكيلومترات من مكان سكنه في أستراليا للوصول إلى بريطانيا حيث يسجن ابنه، وبعد سنوات لجوئه في سفارة الإكوادور في العاصمة البريطانية لندن.

ولعل سيرة “جوليان أسانج” التي يستعيدها الفيلم معروفة للكثيرين، وصوره شائعة منذ سنوات، خاصة تلك المشاهد الأيقونية له وهو يظهر من نافذة سفارة الإكوادور، حيث لجأ عدة سنوات، وتُعرض إلى جانب صور وأفلام أرشيفية سابقة له من سنوات صراعه مع قوى عظمى.

يمر الفيلم الوثائقي في افتتاحيته بمونتاج سريع على اليوم الأخير الذي سبق إلقاء القبض على “أسانج”، ثم يعرض تصريحا يغلب عليه الابتهاج لرئيسة الوزراء البريطانية حينها “تيريزا ماي” وهي تعلن بفخر إلقاء القبض على مؤسس موقع “ويكيليكس”. كما يستعرض الفيلم تغطيات إعلامية من محطات تلفزيونية حول العالم لإلقاء القبض على “أسانج”، وقد توقع بعضها تسليمه إلى الولايات المتحدة.

“فقد جوليان الكثير من وزنه”.. ظهور الأب المجهول لمساندة ابنه

يرافق الفيلم الأب “جون” فترة طويلة من الزمن، ويصحبه في جولاته في عدة دول في العالم، إذ كان يتنقل ليحشد الدعم لابنه في محنته، ومحاولة تخليصه من قدَر مظلم ينتظره إذا سلمته بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ويُستقبَل كالأبطال من مؤيدي ابنه الذين لم يختلفوا عن دعمه، فهم كانوا ينتظرون في برلين التي وصل إليها، وكان يصافح مشدوها أحيانا غرباء جمعهم حب ابنه الناشط السياسي والتكنولوجي المعروف.

وإلى جانب المؤيدين لابنه، كان يلتقي في أي مكان يحل به صحفيين من كل الأنواع، كانوا يريدون معرفة المزيد عن الوالد الذي ظهر فجأة، ولم نكن نعرف عنه الكثير قبل القبض على “جوليان”. ويكشف أن علاقته لم تكن على ما يرام مع ابنه لسنوات، وأنه انفصل عن أُمّه عندما كان الابن في عامه الثالث، ولم يلتقِ به حتى بلغ العشرين من العمر.

يعود الأب إلى موضوع طلاقه من زوجته الأولى في مناسبة أخرى في الفيلم، بيد أنه يبقى دائما متحفظا وشحيح الكلام، وكان يتأفف من فضول الصحفيين، خاصة عندما يسألون عن الحياة العائلية له.

غلب التأثر على “جون” وهو يتحدث عن ظروف السجن الذي يقضي فيه “جوليان” فترة اعتقاله، بانتظار قرار المحكمة البريطانية لتقرير مصيره، خاصة عندما دهم وباء كورونا العالم، وفرض ظروفا قاسية في السجن، حيث كان “جوليان” يبقى معظم يومه في زنزانته الصغيرة خوفا من الإصابة بالمرض.

علاقة معقدة كانت تربط جوليان مع والده

يتحدث “جون” لجمهرة من الصحفيين كانوا ينتظرون أمام باب السجن قائلا: فقد جوليان الكثير من وزنه عن آخر مرة زرته فيها.

“ستيلا موريس”.. كفاح الزوجة المحامية والأم المحاربة

لن يكون “جون” الشخصية الوحيدة في الوثائقي، إذ يقسم الفيلم وقته بين الأب والزوجة “ستيلا موريس” التي كانت محامية له قبل أن تقع في حبه ويتزوجا أثناء فترة مكوثه في سفارة دولة الإكوادور، وإذا كان المهتمون يعرفون الكثير عن “جوليان أسانج” كناشط سياسي، فإن القلة تعرف عن زواجه من محاميته، إذ كانا يحيطان حياتهما الخاصة بالكتمان، بل إن الفيلم كان موجودا أثناء تصوير أول مقابلة تلفزيونية مع “ستيلا”، على شاشة “بي بي سي”.

يعرض الفيلم مشاهد بعضها صُوّر عن طريق كاميرات المراقبة في سفارة الإكوادور لـ”جوليان” وزوجته وهما يعيشان حياتهما الزوجية الغريبة التي كانت محصورة في بناية السفارة وبين مكاتب الموظفين. يولد أبناء “أسانج” أثناء فترة لجوئه إلى سفارة الإكوادور، ويعرض الفيلم مشاهد غريبة له وهو يلعب مع ابنه الصغير في ممرات البناية.

واصلت “ستيلا” الدفاع عن “جوليان” حتى بعد زواجهما، ويرافقها الفيلم وهي تتنقل بين المحاكم البريطانية التي كانت تدرس قرار تسلميه إلى السلطات الأمريكية بتهمة التجسس، وينقل في مشاهد مؤثرة يوما طويلا لها وهي تتنقل بقطارات عامة لتصل إلى وجهتها في مكتب المحاماة الذي تعمل فيه، ثم عودتها إلى شقتها الصغيرة المتواضعة، حيث تعيش مع ولديها الذين ظهرا وكأنهما لا يعرفان شيئا عن مشاكل أبيهما القضائية أو عن شهرته العالمية.

المحامية ستيلا موريس زوجة الناشط الأسترالي

وفي سلسلة مشاهد مشابهة يرافق الفيلم رحلة “جون” و”ستيلا” للسجن الذي كان يحبس فيه “جوليان”، وتكشف الزوجة أن “جوليان” يعاني من اكتئاب شديد، وبأنه أفصح لها عن هواجس لإنهاء حياته بنفسه، بينما ينقل الأب -وقد خيّم الحزن الشديد على سحنته- أن ظروف السجن القاسية تزيد مشاكل ابنه الصحية، ويخاطب الصحفيين الذين ينتظرونه خارج الأسوار قائلا: ما يحصل هو تدمير ممنهج لابني.

“ويكيليكس”.. كابوس ينشر غسيل الحكومات الغربية

يستعرض الفيلم شباب “جوليان أسانج” حينا عبر ذكريات يرويها والده، وأحيانا عبر مشاهد أرشيفية، ولقاء مع صديق دراسة كشف أن “جوليان” كان ضد حرب العراق في عام 2003، وأنه شارك في الجهود الشعبية الكبيرة في أوروبا والعالم الغربي حينها لوقف الحرب.

كان لحرب العراق أثر كبير في تغيير دفة حياة “أسانج”، خاصة بعد خيبة فشل الجهود التي اشترك فيها لوقف الحرب تلك، بيد أن الناشط الأسترالي يحتاج سنوات قبل أن يهز العالم بموقعه “ويكيليكس” الذي تحول إلى كابوس حقيقي لحكومات غربية، فقد وجدت أسرارها تصل عبر مجهولين إلى هذا الموقع، لتنشر بعدها على شبكة الإنترنت.

ينقل الفيلم أن موقع “ويكيليكس” تلقى أكثر من 700 ألف وثيقة سرية وصلت له من مجهولين، يكشف الكثير منها عن أسرار خطيرة تخص أحداثا عالمية جسيمة، منها حربا العراق وأفغانستان، بيد أن الوثائق التي تخص الانتخابات الأمريكية في عام 2016 هي التي هيجت غضب الحكومة الأمريكية، فتطور الأمر إلى اتهامات بالتجسس تكون الإدانة بها كافية لإرساله إلى السجن ما بقي من حياته.

يستعيد الفيلم أبرز محطات موقع “ويكيليكس”، ومنها الفيديو الأيقوني الذي صورته طائرات أمريكية وهي تقصف مدنيين عراقيين كانوا يقفون في الشارع، وكيف أرعب إطلاق النار المجموعة، وجعلهم يتناثرون جثثا في الشارع.

لم يتوقف الفيلم طويلا عند الاتهام الذي وجّه إلى “أسانج” باغتصاب امرأتين في السويد، وهو الاتهام الذي دفعه للجوء إلى السفارة الأكوادورية في عام 2012، خوفا من تسلميه إلى السويد، ولعل المرور السريع على هذه الحادثة هو خيار فني أكثر من كونه موضوعيا، إذ كان من الصعب بحث هذا الموضوع وإعطاؤه الزمن الكافي، وسط الأحداث المتصاعدة التي كان يريد الفيلم أن يغطيها.

البيت الأبيض.. تقلبات السياسة من القاسي إلى الأقسى

يبتكر الفيلم خطا زمنيا مميزا، إذ يسجل آثار التبدلات السياسية في الولايات المتحدة على قضية “أسانج”، فقد بدا أن كل رئيس أمريكي كانت له سياسة مختلفة تخصه، فالرئيس “دونالد ترامب” كان الأشد قسوة في تعامله معه، لكن “باراك أوباما” لم يكن رحيما معه أيضا.

الوالد يتنقل بين مدن مختلفة للتعريف بمظلومية إبنه

تطورت الاتهامات الأمريكية عبر الزمن، فبعد الغضب الرسمي بسبب تسريبات الحربين الأفغانية والعراقية، بدأت تظهر على سطح الحياة الرسمية الأمريكية اتهامات فعلية بالتجسس، ثم تحولت بمرور السنوات إلى كابوس حقيقي يُخيّم على حياة “أسانج”.

لم تنجح المحاولات الأمريكية لتسليم “أسانج” لها، إذ أصدرت محكمة بريطانية قرارا بالإبقاء عليه في بريطانيا، لكن هذا لم يخفف من معاناته، إذ ما يزال رهن الاحتجاز، ومستقبله لا يزال غامضا تماما.

عائلة “أسانج”.. محيط الغائب عن العدسة الحاضر في القصة

تتبدل المقاربة الفنية للفيلم من العائلي أو الذاتي إلى العام، وقد فضل الوثائقي أن لا يلتقي بالشخصية الرئيسية “جوليان أسانج”، رغم أنه كان ممكنا إجراء حوار تلفوني معه، خاصة أن فريق الفيلم كان يصور أحيانا حوارات تجري على الهاتف بين “جوليان” وزوجته من السجن.

اختار الفيلم أن يسجل أثر قضية “أسانج” على والده وزوجته، بيد أن هذه المقاربة لم تكن دائما مؤثرة، لأنه لم ينفذ إلى عالم الأب الداخلي، فقد كان يرفض أحيانا الحديث عن ابنه وعلاقته معه، أما حضور الزوجة في سياقات الفيلم ومناخاته فكان أكثر تأثيرا، خاصة في المشاهد الصامتة التي كانت تظهرها مع أولادها وهم يعانون من غياب الأب وضبابية المستقبل.

بدت “ستيلا” مع أولادها في شقتها المتواضعة زوجةً عادية، تعاني من غياب الزوج وصعوبة تدبير حياتها ورعاية أولادها لوحدها، تنفجر بالبكاء، وتترك موقع تصوير مقابلتها التلفزيونية الأولى عندما يصل الحديث إلى الظلم الذي تعرض له زوجها، إذ تحيط به الصور النمطية والاتهامات التي لا تستند على أدلة دامغة.

تقرّب الفيلم كثيرا من قضية “أسانج”، لكنه لم يفك أسرار شخصيته عبر مقاربته التي اهتمت بعائلته، أو يوفر تقييما نقديا حقيقيا لتركته، خاصة في عمله العام في موقع “ويكيليكس”، فذلك يستحق لوحده وقفات عدة وأعمالا كاملة، لاتساع رقعته الجغرافية وتأثيره المتواصل إلى حد الساعة.