“حامي الفراشات الملكية”.. ناشط شرس وقف في وجه العصابات ثم اختفى

كان ناشطا بيئيا ومدافعا شرسا عن حياة الفراشات الملكية المهددة بالانقراض، شجاع ومقدام لا يهاب الأخطار على كثرتها، فقد وقف وحده في وجه عشرات السياسيين الفاسدين، وواجه أكثر من 14 عصابة إجرامية منظمة تنشط في بلدته المكسيكية، حتى أصبح مع الوقت نجم النشرات التلفزيونية.

لكن مع الوقت حدث له ما كان منتظرا، وفجأة لم يعد موجودا، فما قصة هذا الناشط، وما الذي حدث له قبل وبعد اختفائه الغامض؟

أُنتج الفيلم الوثائقي المكسيكي “حامي الفراشات الملكية” (The Guardian of the Monarchs) عام 2024، وهو ينطلق من فكرة كونية سامية، لا تتعلق بمحافظة “ميتشواكان” المكسيكية فحسب، بل بالعالم أجمع، لأن مخرج وكاتب سيناريو الفيلم “إيمليانو روبرا” أراد أن يدق ناقوس الخطر، ليعرف العالم كله ما حدث للناشط البيئي “هوميرو غوميز”.

كان “هوميرو غوميز” يدافع بشراسة قل نظيرها عن غابات “ميتشواكان” غرب المكسيك، وهي محافظة تطل على ساحل المحيط الهادي، وفيها غابات خضراء ساحرة ممتدة، تعد ملجأ سنويا لملايين الفراشات الملكية التي تهاجر لها شتاء من شمال الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، وتقطع أكثر من 4 آلاف كيلومترا، لتنعم بشتاء “ميتشواكان” الدافئ، وتتغذى مما تجده في تلك المساحات الخضراء الواسعة، كما أنها منطقة غنيّة بالمياه المتدفقة، والمناخ الملائم الذي يساعدها على الاستقرار والتكاثر.

الفراشات الملكية تحيط بالناشط البيئي “هوميرو غوميز” الذي حافظ عليها وحماها من سطوة المجرمين

وجد الناشط “هوميرو غوميز” نفسه حارسا لتلك الغابات ومدافعا قويا عنها، لأنه كان يعرف أن البرامج العملية هي وحدها التي تخلق الاستدامة، لهذا سعى لتنظيم طلعات السياح إلى المنطقة سنويا، وهم يعدّون بمئات الآلاف.

كما قدّم يد المساعدة لكل من يسأل، أو يريد معرفة مسار وكيفية عيش تلك المخلوقات الجميلة والرشيقة، وهي مصدر بهجة وأمل وحب لدى “هوميرو غوميز”، فقد أعطى لتلك الفراشات الجميلة من ماله وجهده أكثر مما أعطاه لأسرته وأقاربه.

تحالف العصابات والساسة الفاسدين.. سباق المال الفاسد

تركّز عمل “هوميرو غوميز” على حراسة الغابات، بعد أن تزايدت عمليات نهبها من طرف رجال العصابات، وكان يُقبض على كثير منهم، لكنهم يُطلقون بعد تسليمهم للشرطة، وقد تزايد هذا الأمر كثيرا، حتى بات يهدد محميات الفراشات الملكية، فتناقصت بحوالي 22%، لا سيما بعد أن تقلصت الغابة واستُولي على جزء كبير من منابع المياه، فبدأت الفرشات تموت.

موت ألوف الفراشات بسبب قطع أشجار المحمية

وقد حدث هذا لأن رجال العصابات قد تحالفوا مع السياسيين، فأصبحوا لا رادع لهم، لدرجة أن هناك أكثر من 14 عصابة إجرامية تجوس في المنطقة، وكلها تتنافس على مصادر المال، ومنها تجارة الخشب غير الشرعية التي تدر عليهم مالا وافرا، لا سيما أن أعمال الأشجار المقطوعة تدر على المكسيك أكثر من 3.2 مليارات دولار، و80% من تلك التجارة تقوم بها العصابات بطريقة غير قانونية.

وما هو أدهى وأمر، أنهم يقطعون هذه الأشجار ثم يحرقون المساحات الباقية، ويتخذونها حقولا من المانغو، لتصديرها للخارج. ومن هنا يتضاعف خطر القضاء على غابات “ميتشواكان”، ثم القضاء نهائيا على الفراشات الملكية المهددة أصلا بالانقراض، في ظل المعطيات البيئية السلبية التي تحاصرها من كل جهة.

منصب العمدة.. السبيل الوحيد لمكافحة العصابات

وجد “هوميرو غوميز” نفسه وحيدا، يرى الغابات تتآكل، والفراشات الملكية تنقرض، والسلطات لا تضرب على أيدي المجرمين، والعصابات تكثف تهديداتها له ولأفراد أسرته، لهذا بدأ يتظاهر في المدن ويعلق اللافتات مع عشرات الناشطين، ويقدم المداخلات التلفزيونية، ويجري الحوارات.

صورة للناشط البيئي “هوميرو غوميز” حامي الفراشات الملكية

وقد تلقى وعودا كثيرة من المسؤولين، أنهم سيضعون حدا لتلك العصابات، وسيقدمون له ولمنظمته الدعم الكافي لحماية الغابات والفراشات الملكية، لكنهم بعد انتخابهم يتملصون من الوعود، لأن الدعم المالي الذي يتلقونه إنما يأتي من رجال العصابات الذين يقطعون الأشجار، لهذا لم يعد يجد أذنا تسمع نداءاته المتكررة، ولا عينا ترى ما وصلت له المحمية والغابات والأشجار.

من أجل ذلك، ترشح “هوميرو غوميز” في المقاطعة التي يسكن فيها، وفي ليلة الانتخابات اختطفته عصابة، وهددته بضرورة الانسحاب من الترشح، ثم أرهبوا الناخبين وحثوهم على عدم التصويت له. ومع كل ذلك الوعيد والتهديد، فقد فاز بمنصب العمدة. ومع أن ذلك المنصب جعله وعائلته في وضع أكثر خطورة، فإنه بدأ في عملية الإصلاح والرعاية والاهتمام بالمحمية، لكن الرياح تجري بما لا تشتهيه السفن.

ساعة الصفر.. ليلة اختفاء العمدة الذي تجاهله بلده

كان العمدة والناشط البيئي “هوميرو غوميز” يعرف جيدا ما كان يحاك ضده، ومع ذلك فقد كان يمارس نشاطه الممارسة المعتادة، في انتظار ساعة الصفر التي بدأت يوم 13 يناير/ كانون الثاني 2020، عندما تواصلت معه سكرتيرته، فدعته لحضور سباق الخيل، وهو نشاط مهم يجمع عددا من المنتخبين والمسؤولين، وهناك عندما انتهى السباق اختفى العمدة، لتبدأ بعدها رحلة البحث.

سباق الخيول هو آخر نشاط يحضره “هوميرو غوميز” قبل مقتله

وبعد ساعات من اختفائه لم يُبدِ النائب العام أي اهتمام باختفائه، لهذا تواصل أخوه مع الإعلام، وأخذت القضية بعدا وطنيا، فبدأ الضغط في العاصمة، ونقلت القنوات العالمية الخبر، وبدأت المنظمات البيئية في أمريكا وكندا وهيئة الأمم المتحدة في الضغط، لتبدأ لجان البحث التحري عنه، لكنهم لم يعثروا عليه.

وبعد أكثر من 15 يوما من البحث، عثر على جثته في بركة ماء، وقال الطبيب الشرعي الحكومي إن سبب الموت هو الغرق، لكن طبيبا شرعيا مستقلا استغرب من كون الجثة سليمة وغير متحللة، بعد كل هذه المدة في الماء.

ومن هنا بدأت تطرح الأسئلة الصحيحة حول اختفائه، والجهة التي قتلته، مع أنها كانت معروفة في المنطقة، لكن لم يستطع أحد أن يسميها، لأنها مرتبطة بشكل وثيق مع السلطة.

اغتيال نشطاء البيئة.. سجل حافل بالأرقام المخيفة!

استند الفيلم الوثائقي “حامي الفراشات الملكية” على إحصائيات وأرقام مفزعة، أوردها المخرج في متن فيلمه، فقد ذكر بأن هناك أكثر من 800 ناشط بيئي، تلقوا تهديدات بالقتل من طرف العصابات المنظمة. وقد اغتيل أكثر من 1733 ناشطا بيئيا في السنوات العشر الماضية، وكان ثلثاهم من أمريكا اللاتينية، وأكثرهم من المكسيك، وهو رقم مخيف جدا.

وعليه، فقد وجب على الهيئات العالمية دق ناقوس الخطر، لأن العمل البيئي العالمي أصبح في تراجع، لعدم توفر الفضاء المناسب لممارسته، كما أن هذا النشاط ذو دور كبير في الحفاظ على التوازن البيئي، في ظل تردي المناخ وتغير الطبيعة، وهي معطيات باتت تهدد وجود الإنسان على الكرة الأرضية عموما.

لهذا رفعت عدة جهات عالمية أصواتها، لا سيما بعد موت الناشط “هوميرو غوميز”، فلم تُقدم أي جهة أو هيئة للمحاسبة، مع أن عناصر الشرطة التي لم تحمِه يوم سباق الخيل هي متورطة، وكذلك النائب العام الذي لم يحقق مع أطراف وجهت لها اتهامات من قبل أخي الضحية وابنه.

كما أن هناك معطيات قوية تقود إلى الفاعلين مباشرة، لكنهم تجاهلوها، وواصلت العصابات قطع الأشجار، فقد بات يدر على أفرادها أرباحا أكثر من زرع وبيع المخدرات، وكذلك عمليات الاختطاف والابتزاز.

قوة التوثيق.. جماليات الصورة وأبعاد البناء

استطاع المخرج المكسيكي الأمريكي “إيمليانو روبرا” أن يخلق مصداقية متقدمة في فيلمه “حامي الفراشات الملكية”، وقد انعكست هذه المصداقية في اعتماده على ضيوف أساسيين، كانت لهم علاقة مباشرة مع الناشط المتوفي “هوميرو غوميز”، سواء من الأصدقاء أو الخصوم.

وذلك أسلوب توثيقي متقدم، لا سيما أن الكاميرا تجوّلت في الفضاءات التي كان يتنقل فيها الناشط أو يعيش فيها، مما خلق حميمية وولّد عواطف إيجابية، يمكن أن تقود المتلقي إلى التعاطف القوي مع كل من يريد خيرا للطبيعة، وفي نفس الوقت تخلق تذمرا من سيطرة المجرمين على كل مقاليد السلطة والحياة.

الناشط البيئي “هوميرو غوميز ” يقتل بسبب مناهضته لقطع أشجار محمية الفراشات

ومع أن الموضوع كان قويا مستحوذا على انتباه الجمهور، فإن المخرج لم يهمل التخطيط الميداني، واعتمد فيه على تقديم صور بانورامية على فضاء الأحداث، لا سيما الفضاءات التي تعيش فيها الفراشات الملكية، ومن هنا زاوج بين قوة التوثيق وجمالية الصورة، وهو معطى أساسي ساهم في تلطيف موضوع الفيلم القوي، وأعطاه شكلا بصريا مريحا للذهن، وملطفا لمسارات العنف التي فيه.

كما لم يهمل المخرج شكل الفيلم، فاستعان ببناء قوي خلقه من خلال ضبط السيناريو من جهة، ومن جهة ثانية من خلال الاعتماد على منطلقات البناء المعتادة، التي تعتمد على المقدمة وتقديم الشخصيات والعرض والحبكة والتشويق والإثارة ثم الوصول إلى النتيجة، وهي أبعاد سمحت بإذابة وقت العرض، وفي نفس الوقت ساهمت بخلق تواصل مهم بين العمل والجمهور، ويعود ذلك إلى خبرة المخرج، فلديه رصيد لا بأس به من التجارب السينمائية.

جنازة الناشط البيئي “هوميرو غوميز ” يحضرها الآلاف، وقد حلقت فوقها الفراشات بعد أن دفن قريبا من بيئتها

فيلم “حامي الفراشات الملكية” صرخة قوية في وجه الفساد، لا سيما وقد أصبح العالم أكثر شرا، وتداخلت فيه معطيات متعددة، وأصبحت الطبيعة عرضة لجشع الفاسدين والعصابات والساسة، لهذا فمن المهم جدا فهم أبعاد هذا الفيلم، ورسم خريطة طريق لمنع تكرر الجريمة التي حدثت للناشط “هوميرو غوميز”.