“قد تحتوي لقطة واحدة على عالم كامل”.. المخرج المغربي فوزي بن السعيدي يحكي للوثائقية

يجوب العميلان المهدي وحميد ربوع المغرب العميقة، لاسترجاع أقساط من قروض صغرى، اقترضها أناس بسطاء، لكنهم عجزوا عن مواجهة متطلّبات الحياة، فيأخذ العميلان منهم كل ما يستطيعان بيعه من السجادات والمواشي وغيرها، وفق أحكام قضائية مزوّرة.

تلك هي الوضعية الأوّلية التي ينطلق منها فيلم “الثّلث الخالي” المعروض في القاعات السينمائية المغربية، وربما تبدو متجذّرة في الجانب الاجتماعي. لكنّ المخرج فوزي بن السعيدي يقاربها بجمالية فكاهية، متلافيا الطرح المباشر، من غير أن يمنع ذلك انتقادا ضمنيا لليبرالية المتوحشة، التي لا تجد غضاضة في طحن الفقراء وعصر المستخدمين.

يأخذ الفيلم منعطفا أوليا يُعدّنا للمنعطف الكبير المقبل، فيقترب من الحياة العائلية للمهدي (الممثل فهد بنشمسي) وحميد (الممثل عبد الهادي طالب)، خارج مظهر البدلة الزرقاء وربطة العنق الحمراء، وتلك لفتة إنسانية تقول إنّ كثيرا ممن يظهرون في شخصيات سيئة، هم في العمق أناس يخفون وراء قسوتهم هشاشة وجروحا عميقة.

حبكة تُربك أوراق الحكاية

يتوغل “الثّلث الخالي” شيئا فشيئا في فضاءات قاسية وخلّابة، سهول صحراوية شاسعة على امتداد النظر، وهضاب صخرية، وبالتوازي مع ذلك يتحوّل الفيلم بسلاسة من كوميديا اجتماعية ساخرة إلى صراع وجودي، مع لمسة عبثية تطبع ذاتية البطلين.

يمزج الفيلم في جزئه الثاني بين جمالية الحكي الشعبي المغربي والأسطورة (أسطورة بينولوبي التي تنقض كل يوم ما نسجته أمس)، حين يفر هارب من العدالة من أيدي البطلين المضادين، فينفلت معه الفيلم من عقال الحبكة الرئيسية نحو حبكة تُربك أوراق الحكي، متوغّلة في إيقاع شعري صرف، وسينما خالية من كلّ شوائب القصة تمتزج مع إيقاع الطبيعة وعناصرها.

تُختزل يوميات العميلين في جمع الحطب نهارا والتسامر حول ضوء النّار ليلا، وكأن دورهما أضحى منحصرا في إبقاء شعلة الحكي متّقدة حتى تتحقّق غاية الحبكة البديلة، وفق تقابل خلّاق بين الحبكتين والقسمين، يعدّد إشارات التّضاد والاستمرارية والقطيعة.

العميلان المهدي وحميد يجوبان البلد لمطاردة المديونين

لعلّ أوج هذا القسم الثاني مشهد يعرج فيه الهارب ومحبوبته في سيارة تجرّ وراءها سحابة من الغبار، إلى الشمس المشرقة التي تواجه الكاميرا، فيغمر ضوؤها عين المشاهد، في الوقت نفسه الذي تحجب عنه الموسيقى حوار العاشقين.

يعيد المخرج بن السعيدي جمع الحبكتين في أعالي فضاء برزخي، يبدو حدا فاصلا بين الحياة والموت، في نهاية تقدّم درسا كبيرا في معاني الحبّ والتّآلف مع الطبيعة، في فيلم يفرغ النقود من حمولتها شيئا فشيئا، فيجعلها قيمة تبادل تعمي بصيرة القلب قبل العين، لتصير في نهايته أقلّ شأنا من تراب الأرض عينه.

عُرض فيلم “الثلث الخالي” عرضه الأول في “أسبوعي المخرجين” بمهرجان كان الـ76، وقد أجرت الجزيرة الوثائقية حوارا مستفيضا مع مخرجه فوزي بن السعيدي، فاستعرضت مراحله منذ انبثاق الفكرة، إلى المونتاج، مرورا بالكتابة وتجارب الأداء وتصميم الديكور والتصوير.

قلتَ إن فكرة الفيلم جاءت من صورة لرجلين يرتديان بدلتين متشابهتين، صادفتَهما في أحد المطاعم. كيف ننتقل من صورة ذهنية إلى كتابة سيناريو فيلم؟

أرى أن الخلق إنما هو انعكاس لما يحدث في العالم، حيث يبدأ كل شيء من تفصيل صغير، فالشّجرة تأتي من بذرة، وقطرة الماء يمكن أن تتحول إلى سيل، هذه طريقة عمل الأفكار في تصوري، شيء صغير تنضاف حوله أشياء أخرى، مثل مجرّة تتشكل شيئا فشيئا حول نجم.

إنها طبيعة الخلق والغموض اللّصيق بها: من أين تأتي الأفكار؟ لماذا تفرض فكرة ما نفسها دون أخرى؟ لماذا ننجذب إلى صورة معينة؟ إلى كلمة دون أخرى؟ إلى وجه أكثر من آخر؟ لا أعرف، بل الحقيقة أنه لا توجد إجابة، لكن الآن أعرف أن كل شيء قد ينطلق من صورة نصادفها في الحياة، فغالبا ما تحفّز شيئا ما دفعة واحدة، أو تثير شعورا معينا، ثم تأتي عملية البناء.

بعبارة أخرى، تُطعّم الفكرة بأفكار أخرى متعددة وصور وشخصيات وتسلسلات، وفي مرحلة معينة يحين وقت القسم الثاني من العمل، وهو البناء، ويمتد هذا القسم حتى يصل إلى الإخراج، ويتجلّى في بناء عالم، وفقا لتماسك داخلي. إن الفيلم هو كيان قائم بذاته، وله حياة داخلية خاصّة به.

يُفتتح الفيلم بلقطة مقرّبة لخريطة تهزّها الرياح ثم تذهب بها، وكأنك تقول منذ البداية إننا سنغامر في منطقة مجهولة بعيدة عن المسالك المألوفة. كيف اختلف استكشاف مواقع التصوير في هذا الفيلم عن أفلامك الأخرى؟

لطالما استكشفتُ مواقع التصوير بدقة، لأنها مرحلة مهمة لدي، فأنا أكتب من أجل الأماكن وبها، وقد استغرقنا وقتا طويلا وعمليات استكشاف متعددة، حتى قلنا لأنفسنا: ستجري أحداث الفيلم في هذه الفضاءات.

نجح المخرج في استعمال اللقطات الواسعة للفضاء القاحل في الفيلم

كان هذا التسلسل الأول مكتوبا في البداية، ليكون وسيلة لتقديم الشخصيتين الرئيسيتين، وقد رأيت أنه سيكون مثيرا للاهتمام أن نمهّد للتناقض الحاصل بين شخصيتيهما، وفي الآن ذاته علاقة الصداقة أو الأخوة التي تجمعهما، فكلاهما يحب الآخر ويكرهه. علاقةٌ متضاربة، حتى في طريقة مقاربتهما للحياة والأشياء، إلخ.

كان الهدف أن ننطلق على الطريق مباشرة منذ البداية، أن نفتتح بصورة خريطة فيلما هو في حدّ ذاته ضربٌ من الاستكشاف، ثمّة شيء ما يحيل على عمل الجغرافي الذي يعيد إنتاج منظر طبيعي هائل فوق خريطة صغيرة، بأكبر قدر ممكن من الدقة. عمل السينما قريب جدا من عمل الجغرافيين، فيمكن أن تحتوي لقطة واحدة على عالم كامل، ويجب أن تكون مخلصة قدر الإمكان إلى هذا العالم.

صورة صغيرة في البداية يمكن أن تحكي القصة بأكملها، وتتحدث عن المضمون والشكل، كأنها تحمل الحمض النووي للفيلم. يقول التغيير الفجائي من لقطة قريبة جدا على الخريطة إلى لقطة واسعة جدا الكثير عن الفيلم. بالنظر إلى الوراء، أنا سعيد بورود هذا المشهد منذ البداية.

تتبع الحبكة مسار نزع أو تجريد، وصولا إلى تجريد نهائي يحيل على بُعد شبه صوفي في العلاقة مع العالم وأشيائه. كيف استطعت صياغة هذا التطور وتمفصلاته مع تهجين الأنواع الفيلمية أثناء الكتابة؟

صحيح أن القصة والفيلم يتبعان مسار نزع أو تجريد، نزع الممتلكات من الناس أولا، ثم يبدأ الفيلم نفسه يتجرد من الأشياء ويتخلص منها تباعا على الطريق، فنمضي شيئا فشيئا نحو طابع متجرّد جدا، فنتخلص من كل الشوائب والأشياء التي لا نحتاجها، لمعانقة مساحات عارية، وشخصيات في مواجهة نفسها وفي مواجهة العالم.

الملصق الرسمي للفيلم

يتخلص الفيلم من أشياء كثيرة ليخلق عالم ما قبل العالم نوعا ما، عالم ما قبل الكلمات أو قبل تسمية الأشياء، لتصوير الرابط مع الأشياء كأنه اكتشاف شبه أسطوري، عالمٌ يكون فيه لحيوان كالكلب مكان مختلف. لقد كان من الوعي أن نخلق علاقة مختلفة للإنسان بالطبيعة، حتى يغدو جزءا لا يتجزأ منها.

يتيح هذا رواية قصص وأساطير وشخصيات أكبر من الحياة نفسها، كل ذلك يخرج إلى النور ويأخذ مكانه بشكل طبيعي.

ومن جهة أخرى، أرى أن هناك جانبا مرتبطا بمسألة تهجين الأنواع، حين تسمح للفيلم بمحو الحدود، وتلافي الأفكار المسبقة أو الجاهزة، وكل ما يوصف بأنه “فيلم ينتمي لنوع كذا”، أو “فيلم يعالج موضوع ذاك”، مما يؤدّي لتناول الأشياء بشكل مختلف تماما.

ربما ساهمت هذه المقاربة أيضا في خلق نوع من التماسك في تدبير الأنواع، من حيث أن الفيلم يسمح لنفسه بالانعطاف نحو شيء مختلف تماما، ويقرّر أن لا يختم القصة. يذهب الفيلم إلى مناطق غير آمنة من هذا القبيل، ويأذن لنفسه بما لا نسمح به عادة.

إلى أي مدى كانت الفكاهة في القسم الأول مكتوبة؟ هل كانت هناك أشياء عُثر عليها أو جُرّبت أثناء التصوير؟

ينبغي أن تتسم الفكاهة بلمسة طبيعية، قد تعطي انطباعا بأنها مرتجلة تقريبا، لكن ما هو صعب للغاية في الفكاهة أنها محكمة كالساعة، فلا تنجح إلا إذا كانت مضبوطة بالميلمتر.

هذا يعني أن مشهد وكالة القروض -على سبيل المثال- كان مُعدّا سلفا، وحركاته مصمّمة، والأزياء والحركات وغيرها. وهذا حال مشاهد عدة في الفيلم، منها السيارة المكشوفة، ثم غير المكشوفة، والمرآب، وغيرها.

إن الفكاهة آلة يجب أن تكون متقنة ودقيقة للغاية، وإلا فلن تنجح، لأنها تعتمد على الصور والمونتاج والإيقاع والموسيقى. بعد ذلك، يمكنني أحيانا ممارسة نوع من الارتجال، ليس ارتجالا بالمعنى الضيق، بل هي أفكار تأتيني وقت التصوير.

بعبارة أخرى، لسنا بصدد 40 شخصا يرتجلون ليخرجوا بأفكار جديدة معا، فالأمر لا يسير على هذا النحو، بل كل ما في الأمر أنني عندما أكون بصدد التصوير، يمكن أن تراودني فكرة، فلا أحرم نفسي من ربط الحوار مع الممثلين والتحدث معهم بشأنها، ثم أناقشها مع المساعد الأول لتفعيلها استعدادا للتّصوير.

يمكن أيضا أن أدير الكاميرا إلى اليمين لتصوير ديكور غير متوقّع، أو ابتكار مشهد لم يكن مخططا له، هذا ما يعنيه الارتجال لدي، أن تظل منفتحا على ما يطرأ، على الحوادث وكل ما يحيط بك، وعندما تعبر فكرة ما في مخيلتك مثل ومضة، ولكن أيضا من البديهي أن تقول لنفسك: انتظر ربما سنفعل هذا وذاك، ونرى ما سيحدث.

هكذا إذن، يحدث أن نبتكر مشهدا، ثم ينتهي به المطاف في المونتاج النهائي، ويمكن أن تعطي مشاهد الفكاهة أحيانا هذا الانطباع بالارتجال، لكنها بالأحرى لمسة طبيعية مهمة للغاية ينبغي الاشتغال لإضفائها.

قد ينسحب الارتجال على مشاهد أخرى، مثل لقطة سقوط الهارب في النهر، حين قرّرت أن لا نرى إطلاق النار ولا موضع الإصابة على جسده، بل نكتفي بالجثة وهي تسقط في الماء، لكنها جزء من مشهد معقد استدعى عربة تصوير ورافعة، وقد صُوّر في وادٍ بالقرب من بني ملال، مع كل الآليات القادمة من الدار البيضاء وما إلى ذلك.

هذا ما أحبه، أن تنفتح في وسط مشاهد أُعدّت بإحكام، على أشياء لم تكن مخططة.

هل تدرّبتم على المشهد المؤثّر لتجريد البقّال من كلّ ممتلكاته؟ وكم عدد اللّقطات التي استلزمها تصويره؟

استغرق تصوير مشهد متجر البقالة نصف يوم، فقد بدأنا في الثانية ظهرا وانتهينا في التاسعة والنصف مساء، لهذا السبب يحتوي المشهد على ما صوّرناه في النهار وفي الليل، لكن ما استغرق وقتا طويلا هو بناء موقع التصوير.

متجر البقالة الذي يتعرض للتخريب لسداد الديون العالقة

صممنا مع المشرفة أثاث المشهد في المتجر قبل بدء التصوير، وفق مخطط محدد، لإنشاء هذا المشهد حيث نزيل الأشياء تباعا إلى أن يصبح المتجر خاليا تماما، ولم نكن نستطيع فعل ذلك في محل بقالة حقيقي. إنه أثاث قابل للإزالة ويمكن تحريكه في جميع الاتجاهات.

لم أحاول محاولات كثيرة، لأن لديّ ممثّلَين جيّدين، وأنا محظوظ بوجود هذه الفرقة الصغيرة حولي، مثل لاعبي كرة القدم الذين يلعبون معا منذ فترة، فتنتج عن ذلك تلقائيةٌ تترسّخ في علاقتنا، يفهم بعضنا بعضا، ونحسن التصرف في جلّ المواقف التي تعترضنا.

بالإضافة إلى كونه مزيجا من الهزلية والويسترن (أفلام الغرب الأمريكي)، فإنه أيضا فيلم صديقين بمعنى ما، يعتمد بشكل كبير على الخصائص التكاملية بين الشخصيتين الرئيسيتين. إلى أي مدى كان الفيلم مكتوباً لفهد بنشمسي وعبدو طالب، وكيف اشتغلت معهما لمقاربة شخصيتيهما؟

نعم، لقد كُتب الفيلم لهما، لكن الأمر كان محض مجازفة، لأنهما لم يمثلا معا كثيرا من قبل، بل التقيا خلال تدريبات فيلم “أيّام الصّيف”، لكن فهد لم يشارك في الفيلم في النهاية.

إنني أعرفهما جيدا، وقد رأيت أن الأمر قد ينجح، لكنها تظل مقامرة، لذا أجريت اختبارات أداء، وجربت بعض الثنائيات الأخرى كي لا أبقى منغلقا في اختيار واحد، مع أني كان لدي انطباع بأن الأمر سينجح، وقد تكوّن لديّ خلال جلسات العمل التي أجريناها، لكنني واصلت تشكيل ثنائيات أخرى، حتى يكون هناك لدي فهد وشخص آخر، أو عبدو مع شخص آخر.

مشهد من الفيلم

وأخيرا، قلت لنفسي إن الحدس الذي كان لديّ هو الصحيح، وأكدت الاختبارات حدسي، وكان الاختيار قويا جدا، لدرجة أنّي اضطررت لتأجيل التصوير عندما لم يكن يفصلنا سوى شهر ونصف عن بدئه، لأن عبدو طالب تعرض لحادث.

فقد أصيب بتمزق في أحد أوتار قدمه أثناء لعبه كرة القدم، وكان يعرج كثيرا، فاضطر لإجراء عملية جراحية. كان من الواضح لدي أنّ تأجيل التصوير والانتظار لمدة ثلاثة أشهر تقريبًا هو أفضل قرار.

تدور أحداث الفيلم في عدد من الأماكن الطبيعية، ومع ذلك فإن الجانب المتعلّق بأفلام الطريق دفعك لاستثمار مواقع عدة منها الحانة الواقعة في قلب القرية الجبلية، وهي تذكرنا بصالونات الغرب الأمريكي، وتستشرف طابع تلك الأفلام. كيف عملت على هذا الفضاء تحديدا، وعلى بناء الأثاث السينمائي عموما؟

كان ذلك بالتعاون مع مصممة الديكور، وقد تعيّن علينا إنشاء حانة من الصفر في قرية، فحوّلنا منزلا إلى ما يشبه حانة لشخص يقدم الكحول في منزله بشكل غير قانوني، وكان المكان يبدو خشنا إلى حد ما، مع وجود غرف داخلية ومنضدة مرتجلة.

نعم كانت هناك رغبة في الإعلان عن نوع الغرب المتوحش الذي سيصل فيما بعد، عن طريق الصالون والحصان الذي يقتحم المكان، إنه حصان الزموري، شخصية “شرّير الغرب” الذي يغير غارة خاطفة على الحانة، قبل أن يعود في القسم الثاني، وقد اشتغلنا على هذا الأمر وفق تصوّر معيّن.

كانت في الفيلم أشياء من هذا القبيل، نوع من التأثيث السينمائي نعمل عليه في القسم الأول لنروي قصة مباشرة، وفي نفس الوقت نهيئ لشيء ما سيحدث في القسم الثاني، عبر تطعيمه بإشارات تبقى عالقة في ذهن المشاهد.

على سبيل المثال، نذهب في مرحلة أولى إلى منزل عائلة التوأمتين، وعندما نعود إلى البيت في القسم الثاني، تتغيّر الإعدادات ويصبح شيئا آخر مختلفا. يتّسم المشهد الأول في المنزل بنبرة هزلية، مع الكلب المصاب في المنتصف، وطلب الزواج المتأخر والأشخاص السّكارى.

وفي القسم الثاني، عندما يعود الهارب تتغير الشخصيات، ويغدو الأب -الذي كان قليل الحيلة مع زواره- أكثر صرامة وهو يسلم البندقية للهارب، الأمر ذاته ينسحب على الأم والكلب، فالجميع إذن يتغيرون، وقد وضعنا كثيرا من الإشارات في الديكور أو الإكسسوارات من أجل هذا الغرض.

وحتى أعطيك لمحة من وراء الكواليس، ينطلق الفيلم بسعي البطلين لجمع المال من أهالي القرى، وفي النهاية يحصلان على سجادة، ويبدأ القسم الثاني بفارسين تابعين للزّموري، يغيران على القرية على طريقة أفلام الغرب، ويحصلان أيضا على سجادة.

إنها نفس السجادة التي أعيد استعمالها عن قصد من بين الأثاث، على غرار إشارات بين الفينة والأخرى، تخلق متوازيات بين القسمين الأول والثاني، لتبدو وكأنها تحكي قصة الظلم ذاتها لكن في عالم مختلف.

يدين إيقاع الفيلم وتنفسّه بالكثير للمونتاج، واختيار تمديد بعض اللقطات على خطّ الزمن هو محفوف بالخطر بلا شك، لكنه حاسم لتوطيد جو التأمل والتيه تحديدا. كيف كانت تجربة المونتاج المشترك مع “فيرونيك لانج”؟

أولا وقبل كل شيء، أود أن أقول إن “فيرونيك لانج” مونتيرة رائعة، وقد اشتغلت على أفلام مهمة، وفازت بجائزة سيزار، ونحن نعرف بعضنا جيدا، وهناك صداقة وتفاهم قوي بيننا. لقد أسست معها طريقة عمل نشأت بشكل طبيعي وأحببتها حقا.

في الأفلام التي عملت عليها بنفسي، مثل “يا له من عالم رائع”، التحقت مدة 15 يوما بعد نهاية المونتاج، لتسائل ما قمت به نوعا ما، وكانت تلك المرة الأولى التي عملنا فيها معا، ثم التحقت بنفس الطريقة بمونتاج فيلم “موت للبيع” بعد أن اشتغلت عليه مونتيرة أخرى معروفة، هي “دانييل أنزين”.

وفي فيلم “أيام الصّيف” الذي قمت بتوليفه بنفسي، اتصلت بها لتأتي وتعمل معي بنفس الطريقة، وقد كانت علاقتنا جيدة للغاية، مع أنّنا لم نتّفق على كلّ شيء، ولكن أرى أنها أغنت الفيلم وأضافت له الكثير.

يتعرض البطلان لسلسة من الأحداث غير المتوقعة

فيلم “الثلث الخالي” هو فيلم صنعنا مونتاجه معا، أو بعبارة أخرى، قدّمتُ إليها اقتراحا أوليا، ثم عملنا معا على المراحل الموالية، كنت أحيانا أتركها مع الفيلم، وأحيانا أبقى بجانبها. أنا سعيد جدا بهذا التعاون، وبتمكننا من توقيع الفيلم بأربع أياد.

صحيح أنه بين بداية الفيلم ونهايته، أو بين القسمين الأول والثاني، هناك اختيار مختلف للمونتاج، فكل شيء يتحول إلى شيء آخر مختلف، الفيلم وإخراجه ومونتاجه، حتى التمثيل يتغير والإيقاع والموسيقية واستخدام الموسيقى ذاتها بين القسمين.

كانت هناك رغبة حقيقية في خلق تقابل بين القسمين، مع وجود أصداء معينة بينهما، ولكن كان من الرهانات المهمة أن يكونا في الآن ذاته مختلفين حقا عن بعضهما، وأن يشعر الجمهور بذلك، وأن ينقلب الفيلم بعد مشهد صعود السيارة وسط سحابة الرمال والغبار، ويتحول إلى شيء آخر.

هذا المشهد الرّائع الذي يعرج فيه الهارب وحبيبته داخل السيارة نحو الشّمس المشرقة هو أحد مفاتيح الفيلم. كيف اختلف شكله النهائي الاستثنائي عن الكتابة؟

كثيرًا ما أقول إني لا أصنع سيناريوهات جيدة، لأنّي أكتب أفلاما لا سيناريوهات، وليست لدي رغبة في خلق أدب، وإنما أكتب أفلاما لأصنعها، ولكن مع ذلك هناك أمور كانت حاضرة في السيناريو، فعلى سبيل المثال فإن الجو العام لهذا المشهد، وكل تسلسل الرجل الهارب مع حبيبته، كان حاضرا في السيناريو.

لكني أرى أيضا أن الإخراج قد تولى الجزء الأكبر من العمل، فهو يحكي القصة، ويبتكر الشكل، ويخلق الأجواء، ويثير المشاعر.

على أي حال، هذا ما أحاول فعله، أحب أن يتأثر الناس بالتمثيل وما تدور حوله القصة، ولكن أيضا بطريقة تصوير الفيلم، والخيارات المتّخذة في حجم اللقطات والكاميرا، ما يتحرّك وما لا يتحرّك، وفي أي وقت يدخل صوت معين على الخط، وكذل استعمال الموسيقى وتركها، والإيماءات إلخ. أحاول أن أسعى إلى أفق سينما خالصة، أو كما ينبغي أن تكون في تصوّري.

تبدو لي السينما قريبة جدا من الأوبرا، فالسيناريو هو بمثابة كتيّب الأوبرا الصغير، ليس 100 صفحة، بل هو كتيّب صغير للاستئناس بالقصّة، والباقي تتولّاه الموسيقى والإيقاعات وجوقة المنشدين. هذه هي السينما الحقّة بنظرة ما.

يحيل الفيلم على الهجرة في القسم الثاني، وكأنه يقول إنها نتيجة للرأسمالية المتوحّشة التي لمّح إليها القسم الأول. هل انبنى تصوّر الفيلم بهذه الطريقة، أم أن الأمر استجاب أكثر للتّرابط حول فكرة التيه؟

نعم، قصة المهاجرين هذه تستجيب لطريقة عمل الفيلم، هناك ما أشرتَ إليه، وهو أنها نتيجة للرأسمالية الخارجة عن القانون، فمن الواضح أنها تدفع الناس لترك ديارهم، وتزرع البؤس حيثما حلّت.

في نهاية القسم الأول، حزن المهدي وحميد لرؤية عائلة علقت في الديون، بعد أن عزم ابنها على الهجرة غير الشرعية، فدفعوا المال لمهرّب، لكن الأمر أكثر درامية من ذلك، لأن أخبار ابنهم انقطعت منذ رحيله ولا يعلمون ما حلّ به.

ثم يأتي القسم الثاني ليستكمل القصّة، إما أن يكون صدى أو استمرارية، حتى أنك قد تتساءل هل هو قسم أول أو قسم ثانٍ، لكن من الواضح أن الفيلم ينتقل إلى عالم آخر، وأجواء مختلفة، وبُعدٍ أسطوري إلى حد ما.

كل أولئك الناس يسيرون نحو عالم أفضل، لكننا لا نقول تصريحا إلى أين هم ذاهبون، ثمّة شيوخ وأطفال وحيوانات وأثاث، لقد وضعنا كل ذلك عن قصد، حتى في تجارب الأداء، حرصت على عدم الاقتصار على وجوه من الجنوب، بل هناك أشخاص يبدون من الشمال، وأوروبيون بيض، إنها إنسانية تتحرك وتتجوّل بحثا عن شيء ما.

يأخذ ذلك الفيلم إلى مكان آخر، يكاد يكون توراتيًا في عمقه، إنه ولادة عالم، أو ما يشبه سفينة نوح، إنهم مهاجرون، لكنهم فجأة يأخذون بُعدا آخر أكبر من الحياة، فيصبحون جميعا شخصيات أسطورية، منها الهارب وحبيبته والكلب وشخصيتانا والمهاجرون، وكأن الفيلم يقترح عالما ممكنا، قوامه صداقة وحب وتفاهم وإنسانية وتسامح واحتفاظ بدل تجريد.

وحين يعود الهارب في النهاية بالمال ليمنحهما إياه، بعد أن تغيّرا ولم يعودا كما كانا من قبل، نشعر أن هناك عالما آخر ممكنا في هذه الإيماءة، حيث يجد البشر نوعا من السلام مع القوى المحيطة بهم؛ الطبيعة وإخوانهم من البشر والحيوانات والرياح والجبال والأشجار. هناك شيء من هذا القبيل في الفيلم.

أثارت اللقطة الختامية للفيلم نقاشا، لا سيما حول تفسيرها أنها تنتمي لعالم برزخي، من غير أي رغبة في دفعك لأن تأتي بتفسيرات قاطعة أو تقريرية، ماذا يمكن أن تقول عن مقاصد المشاهد الأخيرة ودلالاتها؟

نعم، إنها قراءة من بين قراءات أخرى محتملة، أرى الأمر مثيرا للاهتمام، ولا أريد أن آتي بقراءة نهائية أو مشروعة، كونها صادرة عن المخرج، بل أود أن أترك الأمر مفتوحا، وأقول بصدق إن كل هذه القراءات ذات شرعية.

لقد تلقّيت عددا منها، وسمعت واحدة منذ فترة ليست بعيدة، تفسر الصورة الموضوعة على الزجاج الأمامي على أنها لابنة شخصية المهدي، وأنّنا إن بقينا في رابط واقعي مع القصة، يمكننا استنتاج أنه يفكر في ابنته، وأنه لم يعد مضطرا للتخلّي عنها للتبنّي، بعد حصوله على بعض المال. بمعنى أن هناك أناسا يقدمون قراءات واقعية، وآخرين يقدمون قراءات شعرية، وآخرين يذهبون إلى أبعد من ذلك قليلا.

يتيح الفيلم قرائن تشجع على قراءات مختلفة، وهو جهد واعٍ من طرفي، لكي أجعل الأمور أكثر تعقيدا وثراء، وأتيح إمكانية إحالتها على معانٍ مختلفة، وحقيقة استيعاب الفيلم لهذه القراءات هو أمر يبهرني، فأنا قادم من المسرح، ويسحرني دائما أن أرى مخرجين يشتغلون على نص مسرحي كلاسيكي نُقل إلى الخشبة مرارا وتكرارا، وينجحون فجأة في إضاءة شيء ما فيه لم تسبق رؤيته من قبل.

صحيح أن ذلك لا يحدث إلا مع النصوص العظيمة التي كتبها مؤلفون من طينة “ويليام شكسبير” أو “أنتون تشيخوف”، لأنها تفتح احتمالات غير متناهية، وليست كل النصوص تحمل وعودا أو احتمالات لتعدد المعاني.

من حسن الحظ أن هذا ينسحب على الروايات والأفلام أيضا، لقد سعيت إلى شيء كهذا في فيلم “الثلث الخالي”، وأتمنى أن يصل في بعض الأحيان إلى لحظات يبدو فيها المعنى منفتحا على احتمالية تعدد ما.