“كسر القاعدة الاجتماعية”.. شركات تدير شبكات الفساد في أرجاء العالم

احتجاجات متصاعدة في تشيلي ضد الفساد والاستغلال

يغور الوثائقي السويدي “كسر القاعدة الاجتماعية” (Breaking Social) عميقا في بحث العلاقات الاجتماعية السائدة في عصرنا الراهن، وطغيان جشع السياسيين الفاسدين، وزيادة أرباح القوى المتنفذة اقتصاديا، على حساب الطبقات والفئات الفقيرة، من خلال مراجعته للأوضاع الاقتصادية والسياسية في عدة بلدان غربية وأمريكية لاتينية، تشهد تراجعا عن مبادئ الشراكة والتآزر المجتمعي.

وفي الوقت نفسه يرصد ببراعةٍ الحراكَ الشعبي المعارض للفساد، الذي يأخذ أشكالا مختلفة، يعرضها بتوثيق ميداني وتحليل نظري، يأتي من خلال إشراك صانعه عددا من المختصين والمؤرخين، فيضفون إلى متنه عمقا ورصانة، مما يجعله أحد الأفلام القليلة التي تتناول بالتحليل الفلسفي الظواهر الاجتماعية والاقتصادية ذات الطابع الكوني.

عُرض فيلم “كسر القاعدة الاجتماعية” (Breaking Social) في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023 في السويد، وهو من إخراج السويدي “فريدريك غيرتن”، وقد رُشح لجائزتين عالميين.

قيم المجتمع.. أكاذيب شائعة تخالف الواقع المعاش

يبدأ التحليل النظري بصدمة تأتي بصوت المؤرخ الهولندي “روتغر بيرغمان”، فيقول إن قناعته أن ما يتعلمه الناس طيلة حياتهم من قيَم وقواعد أخلاقية، إنما تشجع على اتباع القوانين واحترامها، وتنصح بأهمية التركيز على الدراسة، لأن كل هذا سينعكس إيجابا على حياة الإنسان الملتزم بها.

مسؤولون حكوميون في مالطا يبيعون السواحل إلى شركات أجنبية لأجل منفعتهم الخاصة

وعلى المستوى العام -ولا سيما في مجال تطبيق مبادئ الديمقراطية- فالقاعدة تقول إن الناس الذين يبذلون جهدا أكبر في عملهم، هم الذي يحصلون في النهاية على مردود مادي وتثمين مجتمعي أكبر.

لكن -مع الأسف- هذا لا يتطابق مع الواقع الذي تعيشه البشرية، حتى إن تلك القيم تبدو كأنها أكاذيب شائعة، لأن الناس الذين يكدحون في عصرنا الحالي أكثر، يحصلون على أقل بكثير من الذين يملكون الثروات، ولا يبذلون جهدا كبيرا في نيلها بالفساد واستغلال قوة عمل الآخرين.

“خذ ولا تعطِ”.. مبدأ يوحد الفاسدين بين العالمين

تتوصل المحللة الاقتصادية الأمريكية المختصة بدراسة ظواهر الفساد “سارة شايس”، عبر دراستها للفساد المنتشر في دول العالم الثالث، ولا سيما الفساد الحاصل في أفغانستان خلال حقب كثيرة، إلى حقيقةٍ مفادُها أنه لا ينحصر بمسؤولي الدولة وموظفيها فحسب، بل في قوة ارتباطه بفساد النظام برمته.

المحللة الأمريكية لظاهرة الفساد تجد تشابها بين بلدها وبقية دول العالم

ويدفعها بحثها في الفساد الهيكلي السائد في كثير من أنظمة العالم الثالث للتفكير في هذا السؤال: هل ما يجري في تلك المناطق حصر عليها، أم أنه ينسحب على بلدان رأسمالية وغربية أخرى ومن بينها بلدها الولايات المتحدة الأمريكية؟

وتتوصل بمقارنة النموذجين إلى وجود تشابهات مذهلة بينهما، فكلاهما يعتمد على فكرة الإفساد الهيكلي، وعلى مبدأ “خذ ولا تعطِ”.

“لعنة الموارد”.. فساد هيكلي في جسد الإدارة الأمريكي

تأخذ المحللة “سارة شايس” ما يجري في منطقة فرجينيا الغربية مثالا، فالمنطقة غنية بالموارد الطبيعية ولا سيما مناجم الفحم، لكن المفارقة أن سكان هذه المنطقة لا ينالون شيئا من ثرواتها، لأن أصحاب شركات التنقيب يؤثرون أنفسهم بكل ما يجدونه.

تسمى هذه الظاهرة “لعنة الموارد”، فسكان المناطق الغنية بالموارد الطبيعية كثيرا ما يعانون من المشاكل، بسبب اندفاع أصحاب رؤوس الأموال والشركات العملاقة نحو استغلالها، من غير أن يمنحوا أصحابها أي جزء صغير من الكعكة.

“خذ ولا تعطِ”.. مبدأ ممارس في العالم الثالث وفي الولايات المتحدة الأمريكية أيضا

يحصل ذلك أيضا في أنغولا ونيجيريا، وفي فنزويلا وغيرها من البلدان الغنية بالثروات، وبسببها تجري عمليات إفساد هيكلية لمؤسساتها الحكومية والسياسية. وتُعمق “شايس” النظر في الجانب السياسي الأمريكي، فتجد أن هناك ارتباطا عضويا بين السياسيين المتنفذين، وبين أصحاب الشركات والمؤسسات الاقتصادية العملاقة.

فتجد أن السيناتور الديمقراطي عن فرجينيا الغربية لديه حصة كبيرة في مناجم الفحم، ولكي يضمن كسب أرباح هائلة منها، فإنه يقدم تسهيلات وامتيازات لأصحابها، وغالبا ما تكون ضارة بسكان المنطقة والبيئة التي يعيشون فيها. ولقد قضى التنقيب عن الفحم في المنطقة على مساحات هائلة من أراضيها الزراعية، وأضر كثيرا ببيئتها الطبيعية.

جمهورية مالطا.. عبث بالموارد وإطفاء لشعلة الحقيقة

في بحثها الدقيق عن العلاقة بين السياسي الأمريكي والفساد، تجد المحللة “سارة شايس” أن معادلة “خذ ولا تُعطِ” المُطبقة في النموذج المتبع في العالم الثالث، هي نفسها المُطبقة في المنطقة الأمريكية التي تدرسها.

وقد لاحظت أن سكانها لا يجدون أي فائدة من ثروات منطقتهم، بل على عكس ذلك يحاول السياسيون اتخاذ قرارات يُفقرون بها موظفيها وعمالها، بتقليل رواتبهم وزيادة ضرائبهم عليها، كل هذا في سبيل إعفاء أصحاب الشركات من دفع الضرائب الموجبة عليهم.

الصحافة الشريفة تفضح شبكات الفساد الكونية

وللتحقق من أن هدف إفساد المؤسسات والاستئثار بخيراتها من دون الناس، يجري أيضا في مناطق أخرى من العالم الغربي، يشد صانع الوثائقي رحاله إلى جمهورية مالطا، ليتبيّن له مدى توافق ذلك المسعى مع توجهات ساستها المُفسدين، الذين تحوم الشبهات حول مشاركتهم في مقتل الصحفية الاستقصائية “كارولينا موسكات”.

فيقابل الوثائقي هناك زميلتها المصورة “جوانا ديماركو”، التي كانت لحظتها تصور مظاهرات احتجاجية شعبية، خرجت إلى شوارع منطقة بيدنيا، مطالبة الحكومة بوقف بيع الموانئ ومساحات كبيرة من سواحلها لشركات متعددة الجنسيات.

سلطة اللصوص.. عصابات نهب الأراضي والمؤسسات الحكومية

تُبدي المصورة “جوانا ديماركو” غضبها من مقتل زميلتها، وتُحيل السبب إلى تقريرها الذي كشفت فيه العلاقة المشبوهة بين زعماء سياسيين وشركات أجنبية، تُسهل حصول رجال مال وأثرياء أجانب على جوازات سفر مالطية، ليتهربوا بها من دفع الضرائب في بلدانهم الأصلية.

كما تعقد الشركة صفقات تجارية، تشتري بموجبها مؤسسات ومصالح عامة تابعة للدولة، منها مستشفيات حكومية وشركات لتوليد الطاقة وغيرها، إلى جانب إبرامها عقودا مع مسؤولي الحكومة يتنازلون بموجبها عن مساحات كبيرة من أراضي البلد، مقابل منحهم نسبا من أرباح المشاريع الأجنبية في مالطا. وكل هذا يأتي في إطار خطط اقتصادية تقرها الحكومة، وكلها مجيرة لخدمة حكامها المُفسدين.

المطالبة بالعدالة والتحقيق النزيه في جريمة قتل الصحفية “كارولينا موسكات”

هذا النموذج الحكومي الفاسد يسميه أحد الصحفيين “كليبتوكراسي” (KLEPTOCRACY)، أي سلطة اللصوص. أما المحللة الأمريكية “سارة شايس” فتسميه “شبكة عمل الفساد”، وهي عبارة عن شبكة مصالح متداخلة بين السياسيين الفاسدين وبين قوى اقتصادية كونية متحالفة معها، وذلك لضمان حمايتهم من أي محاسبة قانونية، وهم يستعينون بحقوقيين ومحاسبين كبار قادرين على تبرئتهم من تهم الفساد.

وإذا ما فضح الصحفيون ذلك، فإنهم لا يترددون في قتلهم أو إسكاتهم بالتهديد والقوة، وهذا ما وقع للصحفية المالطية “كارولينا موسكات”، عندما كشفت العلاقة بين قادة من الحزب الحاكم وشركة “هينلي أند بارتنرز”.

“هينلي أند بارتنز”.. شركة تنصب الرؤساء وتنهب البلدان

كان من أنشطة شركة “هينلي أند بارتنرز” المشبوهة تسهيل إصدار جوازات السفر الصادرة رسميا من دول يقدمون لمسؤوليها رشاوى، ثم منحها لرجال مال وأثرياء أجانب، ويساعدون بعض قادتها للوصول إلى دفة الحكم، مقابل تنازلهم لها عن حقوق ومصالح عامة.

الكائنات البحرية والإنسان في مالطا يختنقون جراء التلاعب بالبيئة وبيع الثروات البحرية

تؤكد شهادة “سفين هوغنر” -وهو خبير بريطاني مختص بالاتصالات الإستراتيجية- تلك الصلة، من خلال مهمات كلفه بها سياسيون في منطقة الكاريبي، منها إدارة حملات انتخابية ناجحة لهم. ويلاحظ “هوغنر” خلال عمله هناك أن أحد السياسيين المرشحين للانتخابات الرئاسية في إحدى الدول الكاريبية، كانت تصله أموال كثيرة من شركة “هينلي أند بارتنرز”.

ويكتشف أيضا أن الشركة تشترط على ذلك المرشح عند فوزه، أن يساعدها في استصدار جوازات سفر رسمية، وتوقيعه معها عقودا تجارية، وبموجب قسم منها تتنازل حكومته عن مؤسسات عامة، ومساحات من أراضي البلد، لتُقيم فوقها مشاريعها، وتستغل الثروات الكامنة تحتها.

الجفاف في تشيلي جراء جشع شركات التنقيب عن المعادن

تفضح الصحفية المالطية “كارولينا موسكات” علاقة شركة “هينلي أند بارتنرز” بسياسيين يديرون حكومة بلدها، وقد باعوا جوازات سفر للشركة، ومنحوها عقود شراء مساكن وأراضٍ وأجزاء من السواحل البحرية، مقابل منحهم نسبا من أرباحها.

تجفيف البحيرات.. شركات جائرة تخنق نبع الحياة في تشيلي

يحدث ارتباط الفساد بالمصالح الاقتصادية الكونية في مناطق مختلفة من العالم، ولهذا يقرر الوثائقي الذهاب إلى تشيلي، لرصد تلك العلاقة التي تؤكد الوقائع على الأرض وجودها.

ففي وادي “تشوابا” في تشيلي يقابل الوثائقي الشابة “إيفانا أوليفاريس ميراندا”، فتحكي لصانعه الظروف القاسية التي يعيشونها، بسبب جفاف التربة بعد زوال مياه البحيرة التي كانوا يعتمدون على مياهها العذبة لسقي مزارعهم. ويتضح أن سبب جفاف مياه البحيرة ناتج عن الاستخدام الجائر لشركات التنقيب عن المعادن لمياهها.

البحيرة يوم كانت مليئة بالماء وكانت تجلب السرور للناس

تذكر “ميراندا” أن المناجم القريبة منها تستهلك ما يقارب 400 لتر من الماء في كل ثانية، ولهذا نضبت المياه، وغمرت الأتربة البحيرة، ولم يعد السكان قادرين على زراعة الأرض التي هي مصدر عيشهم الأساس.

وتُخبر “ميراندا” الوثائقي أن الشركات لم تعوض خسارتهم للأرض والمياه، ولم تساعدهم على تجاوز محنتهم ماديا، ولهذا بادرت مع مجموعة من سكان المنطقة للخروج إلى الشارع، والاحتجاج على سلوك أصحاب المناجم الذين يضعون الربح فوق كل اعتبار.

دعوات للرأفة بالبشر، فهل من مجيب؟

يقرر الوثائقي البقاء في تشيلي لرصد الحراك الشعبي المتزايد فيها ضد الفساد، وضد كل أشكال الاستغلال السياسي والاقتصادي، ويلاحظ تحلي المشاركين فيها بروح مفعمة بالأمل، فهم يشعرون بأهمية عملهم وقدرتهم على التغيير، حسب تعبير الشابة “ميراندا”.

احتجاج المعلمات.. نضال من أجل العدالة يؤتي أُكله

بعد قرار زيادة الضرائب المفروضة على المدارس في فرجينيا الغربية، تخرج المعلّمات للاحتجاج على القرار الذي اتخذه “بارون الفحم” السيناتور الديمقراطي، المتعاون مع شركات التنقيب العملاقة عن المعادن، وتقرر المعلمات تشكيل مجموعة ضغط عادية أول الأمر، تطالبه بإلغاء القرار.

وتشجع نتائج التحرك بقية المعلمات في المنطقة على المشاركة، وهذا ما ينتبه إليه المؤرخ الهولندي “بيرغمان”، الذي يشير إلى ظاهرة إشاعة القوى المهيمنة اقتصاديا، والمستفيدة من إشاعة الفساد وإحباط الطموح بالتغيير، وهي فكرة مضللة تفيد بأن تطور الإنسان المعاصر غير متأصل وهش.

معلمات في ويست فرجينيا ينظمن أنفسهم ضد تواطؤ السياسيين مع أصحاب المناجم المحليين

ويظهر ذلك بوضوح خلال الأزمات والكوارث، في حين تؤكد الدراسات التاريخية الرصينة أن الإنسان مجبول منذ آلاف القرون على العمل المشترك والتعاون مع الغير، وأن فكرة الاستحواذ على ما لا يعود إليه، إنما جاءت نتيجة لتربية سياسية واجتماعية خاطئة، عززت نزعة التملك، ورسخت قيم الأنانية الفردية المنتشرة اليوم في العالم الرأسمالي، وهي تجد في الأفكار التي تدعو لكسر كل ما هو اجتماعي ومفيد للناس سندا لها على ترسيخ قيم الفساد ونهب ثروات الآخرين.