عبد الرحمن الداخل.. صقر على جبال الأندلس

أمين حبلّا

لم ينل مهاجر من التقدير والخلود في ذاكرة التاريخ الأندلسي ما ناله عبد الرحمن بن معاوية، فقد اختص باسم الداخل من بين آلاف المهاجرين العرب الذين قذفت بهم يد الدهر وصروف الأيام إلى الجزيرة الخضراء، وكأنه الداخل الوحيد بينهم إلى أرض لم تكن مسقط رأسه، ولا أول أرض مس جلده ترابها، لكن دخوله إليها كان توغلا في أعماق التاريخ، ورحلة لا تزال مستمرة بين أفياء الأيام.

لم يكن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية؛ الناجي الوحيد من المجزرة البشعة التي سفك فيها بنو العباس دماء أسراهم من أبناء عمومتهم المروانيين الأمويين.

صحيح أنه كان من قلة قليلة نجت من السيف الذي جال على الرقاب المذعنة بعد أن استلب الدهرُ ملكها، وتوهج لها من خلال الرماد شبوب نار محرقة، أتت على 91 ربيعا أمويا، انتظم 14 خليفة، منهم 10 من بني الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، بدءا بمروان بن الحكم، وانتهاء بمروان بن محمد المعروف بمروان الحمار بن محمد، وبين المروانين، قصة أموية لم تنل حظها الكافي من حبر التاريخ الدفاق.

 

موكب الهروب الفخم.. هروب من دمشق

كان ابن معاوية، الأقوى شكيمة على مدافعة الخطب والتصدي لفجأة الانهيار، والسعي لاستعادة الملك السليب. فكان الموكب “الفخم” الذي خرج به عبد الرحمن من دمشق المنكوبة بدماء بني أمية إلى الأندلس توليفة تزركشها الآمال والمخاوف، ولم يكن غير فرسين جامحتين على متنيها أمير هارب وغلام وفِيّ، ونفس تواقة إلى المجد، وزاد قليل لا يمكن أن يوازيه زاد الطموح الذي يحمله شاب مرهف الإحساس لا يزال على مناكبه ريش كثير من عامه الثامن عشر، لا أكثر.

خرج الموكب الصغير، تاركا خلفه زوجة شابة وابنا صغيرا جدا، في عمر الأحلام وبراءة النسيم، وخرج معه أخوه الوليد بن معاوية، وعبرا النهر سباحة، ولم يكن بين شاطئيه من البعد أكثر مما بين الحياة والموت، بين عيني رجل يطارده أعداؤه، ويرنو إلى ملك يلوح خلف التلال.

أعيت الوليد حركة ذراعيه، وألقى إليه جنود بني العباس بحبل واهن من الأمل الكاذب والوعد الزائف، فولى إليهم راجعا، وما إن وقف بين أيديهم حتى أهدوه ضربة حسام غادر، فغادر الدنيا وهو ابن ثلاثة عشر ربيعا لا أكثر.

ولم يكن هذا السابح العائد إلى حتفه إلا واحدا من مئات الأمويين الذين قتلهم العباسيون بوحشية غريبة، وقد حرضت عليهم أبواق إعلامية من شعراء وفناني العصر العباسي.

 

أبواق المحرضين.. بين بني العباس وبني أمية

وتذكر لنا كتب التاريخ، كيف أن هؤلاء المحرضين أعادوا إلى قسوة بني العباس عنفوانها، بعد أن كاد يلين جانب منهم لأبناء عمومتهم الأمويين، بعد أن أصبحوا طيرا مهيض الجناح لا يستطيع التحليق ولا الهديل.

ومن تلك القصص المؤلمة أن أبا العباس كان في بعض أيامه جالسا في مجلس الخلافة وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك وقد أكرمه وتبسط معه حتى دخل عليه شاعر اسمه سَديف، وأنشده:

لا يغرَّنك ما ترى من رجال..  إن تحت الضلوع داءً دويًّا

فضع السيف وارفع السوط حتى..  لا ترى فوق ظهرها أمويًّا

فانتفض دم النقمة في عروق السفاح، وأمر بضيفه سليمان، فسيق إلى النطع وقطع رأسه، في مشهد تكرر أكثر من مرة في عبور الحكام إلى كراسي السلطة على أمواج الدم ومجاديف الرماح.

وتروي قصة أخرى أن شاعرا من موالي بني العباس دخل على أحد سادته (عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس)، وعنده وفد كبير من بني أمية، وهم جلوس على طعام الضيافة، فأنشد قصيدة، جاء فيها:

أصبح الملك ثابت الأساس.. بالبهاليل من بني العباس

طلبوا وترَ هاشم فشفَوها.. بعد ميلٍ من الزمان وياس

لا تُقيلنَّ عبد شمس عِثارا.. واقطعَنْ كلَّ رقلة وغراس
(…..)

فأمر بهم عبد الله فضُربوا بالعُمُد حتى قتلوا، وبسط النطوعَ عليهم، فأكل الطعام عليها وهو يسمع أنينَ بعضهم حتى ماتوا جميعا.. أو هكذا تروي الروايات وكتب الأخبار القديمة.

ولم يسلم الأموات من هذا الانتقام، فقد نقل ابن كثير في البداية والنهاية  أن الأمير العباسي عَبْد اللَّهِ بْن عَليّ لما دخل دمشق “نَبَشَ قُبُورَ بَنِي أُمَيَّةَ فَلْمْ يَجِدْ فِي قَبْرِ مُعَاوِيَةَ إِلَّا خَيْطًا أَسْوَدَ مِثْلَ الْهَبَاء، وَنَبَشَ قَبْرَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَوَجَدَ جُمْجُمَة، وَكَانَ يُوجَدُ فِي الْقَبْرِ الْعُضْوُ بَعْدَ الْعُضْوِ، غَيْرَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَإِنَّهُ وَجَدَهُ صَحِيحًا لَمْ يَبْلَ مِنْهُ غَيْرُ أَرْنَبَةِ أَنْفِهِ، فَضَرَبَهُ بِالسِّيَاطِ وَهُوَ مَيِّتٌ، وَصَلَبَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ، وَدَقَّ رَمَادَه”.

أما عبد الرحمن بن معاوية حفيد عبد الملك بن مروان، فقد زادته دماء أخيه -التي تدفقت مثل شلالات الفرات- عزيمة وإصرارا ويقينا أنه لم يبق من خيارٍ غير السير قدما نحو المجهول، الذي سيتكشف مع الزمن عن ملك عظيم ودولة أموية على شواطئ الأبيض المتوسط.

وقد استمرت رحلة الفرار، والسعي لتأسيس الملك ست سنوات، انتقل فيها الرجل بين قبائل وحواضر، ومدن متعددة، وكان مطلوبا لذاته، مبحوثا عن رأسه، تترصده عيون بني العباس أنى اتجه.

مدينة القيروان قي تونس حيث رحل عبد الرحمن الداخل بحثا عن ملاذ آمن

 

من الفرات إلى القيروان.. رحلة البحث عن مُلك جديد

بعد أشهر من السير الحثيث والتخفي والمخاطرة، وصل عبد الرحمن بن هاشم إلى القيروان، التي لم تكن خير مثوى للأموي الذي لا يعرف بمن يستجير؛ هل بالخوارج الثائرين على الأمير عبد الرحمن بن حبيب وبين الخوارج والأمويين تاريخ من العداوة ونهر من الدماء، أم يتحالف مع عبد الرحمن الذي ينظر شزرا إلى الشاب الأموي ويتحين الفرص للقضاء على طموحه الذين يبرق على جبينه كما تبرق عيون الصقر؟!

كان الخوارج أسرع فتكا، فحاولوا قتل الطريد ابن هشام الذي فر مسرعا إلى برقة في ليبيا، حيث أقام هنالك أربع سنوات في حماية بعض أخواله من القبائل البربرية.

في تلك السنوات الأربع، وصل عمره إلى الثالثة والعشرين، وشب حلمه وتردد بين ظهور قد يؤدي به إلى موت شنيع على يد أعدائه الكثر، أو اختفاء لا يليق بباحث عن استرداد ملك بني أمية.

وقد استقر رأي الرجل على التوجه إلى الأندلس لأسباب متعددة، منها بُعدها عن قوة وسيطرة العباسيين والخوارج، وكثرة أنصار الأمويين فيها، زيادة على اضطراب أحوالها في عهد أميرها يوسف بن عبد الرحمن الفهري.

ولأن طريق الملك غير مأمونة العثرات، فقد بعث عبد الرحمن سفيره ورجل مهماته الخاصة، مولاه بدرا إلى الأندلس، ليبدأ دعوة سرية، ويبني “تنظيما” متأسّسا على أمجاد الدولة الأموية القديمة، وتاريخ الفتح الإسلامي في الأندلس الذي عبرت فيه المصاحف والإيمان على سروج خيل بني أمية بن عبد شمس.

كما عزف ابن هشام على وتر الأزمة والعداء المستحكم بين القبائل البربرية والأمير يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وزين لهم مساندته وعونه، حتى يأخذ لهم بحقهم من الأمير الفهري، ويؤسس على سواعدهم أركان ملكه. وكانت المرحلة الرابعة هي تجميع فلول بني أمية في مختلف الأمصار ودعوتهم إلى الأندلس، باعتبارها الأرض الموعودة لاسترداد الملك السليب.

الخلافة الأموية الثانية في بلاد الأندلس يرفع رايتها صقر قريش عبد الرحمن الداخل

 

عبد الرحمن الداخل في الأندلس.. توافق على قتال يوسف الفهري

مر عامان والهوى أموي، وعيون الصقر القرشي رانية إلى الأندلس، ينتظر في كل إشراقة صباح رسولا من بدر ليخبره بأن الأمر بات على ما يرام، إلى أن جاء البشير، فألقى كتاب الأمل بين أحضان عبد الرحمن، وأبلغه أن الأمور أصبحت في صالحهم.

استبشر الأمير الشاب بالخبر المفرح، وتفاءل باسم حامله غالب التميمي، ورأى فيه تمام الغلبة واستقرار الحكم وتحقق الأمل.

لم يتأخر عبد الرحمن بعد وصول رسالة مولاه، فعبر إلى ساحل الأندلس، وهناك استقبله مولاه بدر، ثم انطلقا في رحلة أمل جديدة محفوفة بالمخاطر نحو قرطبة، التي كانت تحت حكم أميرها المأزوم بالصراعات المتعددة، يوسف بن عبد الرحمن الفهري.

بدأ الداخل تجميع أنصاره من محبي الأمويين ومن خصوم الفهري ومن القبائل البربرية وفلول بني أمية القادمين من أنحاء الخلافة الإسلامية، ومع ذلك لم يبلغ الجمع منتهى المأمول، ولم يصل إلى حجم الجيش الذي يمكن أن يطيح بالفهري أو يؤسس ملكا جديدا في الأندلس.

وفي تلك الأثناء كان عبد الرحمن الداخل قد بدأ مرحلة التحالف مع القبائل اليمنية التي كانت في عداء شديد مع الأمير يوسف الفهري، وأبرم أبو الصباح اليحصبي أمير اليمنين، حلفا مع عبد الرحمن الداخل، ولكن القلوب لم تُطو بينهما على خالص الود، فقد كان أبو الصباح يستظل بوارف من الحقد والنقمة على الأموي الشاب الذي يريد أن يأخذ ملك الأندلس بيديه.

ومع ذلك فقد شهدت مدينة إشبيلية مفاوضات عسيرة بين الطرفين، انتهت بتوافق على الائتلاف لقتال يوسف الفهري بعد أن أخفقت عروض عبد الرحمن عليه بأن ينضوي تحت لوائه، وأن يكون من أمراء جنده وأركان دولته التي تستمد شرعيتها من تاريخ وحكم بني أمية، إلا أن الفهري قرر ركوب أمواج القتال، وسعى لكسر شوكة الداخل وهي ما زالت في مهدها، لكن رياح الأقدار جرت على خلاف مراده.

المعركة التي ركب فيها الأمير عبد الرحمن الداخل بغلة بدلا من فرسه الشهباء

 

موقعة المسَارة.. بداية مملكة الداخل

في ذي الحجة سنة 138 للهجرة الموافقة لسنة 756 ميلادية التقى الجيشان في معركة المسارة، وتقارعت الأسنة في حرب ضروس حصدت أرواحا كثيرة، وانتهت بهزيمة ساحقة ليوسف الفهري أمام سيوف جيش عبد الرحمن الداخل، وحلفائه من القبائل اليمنية والبربرية.

كان الداخل قبل المعركة قد أوجس في نفسه خيفة من تراجع أبي الصباح اليحصبي، حينما بدأت بعض الأراجيف تقول إن الفرس الشهباء العظيمة التي يركبها الأمير الأموي كفيلة بأن تنقذه إذا ما انتصر جيش الفهري، ليغادر الأرض التي وصلها طريدا، ويبقى أنصاره الجدد تحت رحمة سيوف الفهري الفتاكة.

ولقطع الشائعة في مهدها، سلم الداخل فرسه الشهباء التي عرفته ورافقته في المحن إلى أبي الصباح، وأخذ من عنده بغلته التي لا تساوي الشهباء إقداما وسرعة ومرونة، ولكنه زرع بذلك بذرة ثقة وارفة في قلوب اليمنيين.

انتهت المعركة ودارت الدائرة على الفهري. وعلى عكس معاملة العباسيين للأمويين في الشرق الإسلامي، قرر الداخل أن لا يَتْبع فارّا ولا يُجهِز على جريح ولا يقتل أسيرا، بل كان يرى في كل هؤلاء لَبِنات في دولته الجديدة، وكل ما عليه أن يداوي جراحها بالمودة والرحمة، وهو ما كان حيث أمر جنوده: “لا تتّبعوهم، اتركوهم، لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشد عداوة منهم”.

 

الداخل واليحصبي.. حرب باردة انتصرت للشاب الأموي

لم يستسغ أبو الصباح اليحصبي مُلك الشاب الأموي، ودعا أنصاره إلى أن يميلوا ميلة واحدة على الأموي المزهو بانتصاره قبل أن تتعزز قوته، فلم يكن مستعدا لأن يهدي لشاب أموي في الخامسة والعشرين من عمره ملك الأندلس، بعد أن كان شريكا له في صناعة النصر في معركة المسارة.

لكن اليمنيين أحجموا عن هذه المغامرة التي وصلت أنباؤها إلى الداخل، ولكنه أسرّها في نفسه وترك للأيام معالجة الأمر، فقد كانت حكمته ومكره كفيلين بأن يوهنا قوة اليحصبي، فصبر عليه إحدى عشرة سنة، بعد أن أصبح مجرد جناح هزيل لطائر مهيض الجناح.

ويمكن القول إنه بانتصار الداخل في معركة المسارة (سنة 138 هجرية) بدأت عمليا الدولة الأموية الثانية، واستمرت حتى 316 هجرية، وشهدت أزهى فترات الأندلس حكما وتقدما وازدهارا في مختلف مناحي الحياة ومراقي الحضارة.

وقد امتاز عبد الرحمن بالحكمة والصبر والأناة، حتى استطاع أن يُخضع 25 ثورة مسلحة، فمنها ما استلانه بالحكمة والهدوء والمكر والتفكيك، ومنها ما واجهه بحد السلاح وسطوة السيوف والفرسان حتى قضى عليه.

ومن أشهر الثورات التي واجهها الرجل ثورات الأمراء الفهريين واليحاصبة التي استمرت طيلة عقدين من حكمه، قبل أن تنضاف إليها ثورات أمراء طامحين من البربر.

 

تعمير الأندلس.. على طريق الاستقلال التام

أولى عبد الرحمن الداخل الأمن والقوة العسكرية اهتماما خاصا، فأسس جيشا قويا، بناء على عناصر القوة العددية والولاء والعدة والتجهيز، حيث كان الجيش مؤلفا من المولّدين والشباب الصقالبة الذين استُجلبوا من أوروبا يومها، لينخرطوا في المجتمع الإسلامي، دون أن يكونوا حاملي ولاء أو انتماء عصبي أو قومي لأي من الطوائف الاجتماعية في الأندلس، كما ضم الجيش كتائب متفرقة من مختلف القبائل العربية والبربرية المقيمة في الأندلس، ومنهم اليمنيون أنصار أبي الصباح اليحصبي.

وفي سنوات قليلة، أصبح الشاب -الذي فر وحيدا من سطوة العباسيين- قائدا لجيش يزيد على 100 ألف فارس، غير الكتائب الراجلة، ورجال الاستخبارات، والبريد الحربي وغيرهم من قطاعات الإدارة الأموية في الأندلس.

ولتجهيز هذا الجيش القوي بما يلزم من عدة وعتاد، أنشأ الأمير الداخل دور السلاح، ومصانع السيوف، ومركبات تصنيعية خاصة بالمنجنيق، وأسس أسطولا حربيا، كما تجاوز تعداد الجيش في عهده أكثر من 100 ألف فارس.

ولقد كان الداخل مسكونا بهاجس الاستقلال التام، فأنشأ دارا لصك النقود التي حملت اسمه، وأقام الكثير من المدن والأربطة، وشق السكك والطرق، وجلب المياه إلى مختلف قرى ومدائن الأندلس، وأقام جامع قرطبة الكبير، وأنشأ حديقة الرصافة الفخمة التي استجلب لها أنواع الأشجار المثمرة من مختلف الأنحاء، وجعلها أول مشتلة تاريخية في الأندلس، وكان لها الدور الأساسي في مد ظلال الحدائق والجنان في مختلف أنحاء الجزيرة الخضراء التي وصفها أحد الشعراء ذات مرة قائلا:

يا أهل أندلس لله دركم.. ماء وظل وأنهار وأشجار

ما جنة الخلد إلا في دياركم.. ولو تخيرت هذا كنت أختار

دخل عبد الرحمن بن معاوية الأندلس وحيدا واستطاع أن يقيم فيها حكما للأمويين فسمي عبد الرحمن الداخل

 

الداخل.. نصير العلماء وشاعر الغربة والنخيل

حمل الداخل من الشرق من شامه وبغداده؛ نفسا شاعرة، زاد من وهجها رحلته الطويلة، وصراعه من أجل الحياة، وكفاحه من أجل الحكم والملك.

وقد أخذت الثقافة جزءا غير ضئيل من اهتمام الأمير عبد الرحمن، فأدنى إلى مجلسه العلماء والأدباء، ونالوا في مجلسه من التوقير والإجلال الشيء الكثير، كما فتح أمام “الهيئات” الإسلامية مجال التحرك وفسحة الانطلاق، فأخذ العلماء يديرون حلق التعليم، وأربطة الإفتاء والتربية، ومراكز التأليف والمناظرة والبحث.

ورغم سنوات الأسى ورواسب المحنة التي انغرست في قلب عبد الرحمن الداخل عدة سنوات، فإن رواسخ الجمال وعشق الحدائق والنخيل لم يمت ولم ينضب معينه في فؤاد ذلك الشاب الدمشقي البغدادي، فها هي نخلة الرصافة بقامتها الفارعة وعثاكيلها المفعمة تثير لواعج الشوق في فؤاد الأمير، وتعيد نسج قوافي الأسي بروي من رطيب الأدب، خصوصا أنها ذكّرته بقصر الرصافة الذي أنشأه جده هشام بن عبد الملك أيام سطوة وعنفوان بني أمية في الشرق الإسلامي:

تبدت لنا وسط الرصافة نخلة.. تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل

فقلت شبيهي في التغرب والنوى.. وطول التنائي عن بَنِيَّ وعن أهلي

نشأت بأرض أنت فيها غريبة.. فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي

سَقَتْكِ غوادي المزن من صوبها الذي.. يَسُحُّ ويستمري السماكين بالوبل

ولم تزل هذه النخلة الفارعة تستدر عاطفة الأمير كلما استظل بسعفها اللألاء، فإذا هو يخاطبها مرة أخرى:

يا نخل أنت غريبة مـثـلـي.. في الغرب نائية عن الأصل

فابكي، وهل تبكي مـكـيسة.. عجماء، لم تطبع على خيل؟

لو أنها تبكي إذن لـبـكـت.. ماء الفرات ومنبت النـخـل

لكنها ذهلـت وأذهـلـنـي.. بغضي بني العباس عن أهلي

ولا يزال الحنين يخلب قلب الأمير، وتهيّج الذكرى له خطوات كل راكب ييمم أرض الرافدين أو الشام أو الحجاز، فيحمله أشجان نفس أضناها الشوق، وقضت يد الأيام أن لا عودة لها إلى حيث نيطت عليها تمائم الطفولة أول مرة:

أيها الراكب الميمـم أرضـي.. أَقْرِ من بعضي السلام لبعضي

إن جسمي كما علمت بـأرض.. وفؤادي ومالـكـيه بـأرض

قُدِّرَ البين بيننا فافـتـرقـنـا.. فعسى باجتماعنا الله يقضـي

أبو جعفر المنصور يطلق لقب صقر قريش على عبد الرحمن الداخل

 

أتعلمون من هو صقر قريش؟

لم يستطع خصوم عبد الرحمن الداخل إلا أن يعترفوا له بالفضل وصلابة العود وقوة العزيمة، فها هو الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور يلقبه بصقر قريش في قصة ترويها كتب الأدب والتاريخ، وتفيد أنه سأل جلساءه: “أتدرون من هو صقر قريش؟”، فقالوا له: “أمير المؤمنين الذي راض الُملك، وسكّن الزلازل، وحسم الأدواء، وأباد الأعداء”. قال: “ما صنعتم شيئًا”، قالوا: “فمعاوية”، قال: “ولا هذا”، قالوا: “فعبد الملك بن مروان”، قال: “لا”. قالوا: “فمن يا أمير المؤمنين”، قال: “عبد الرحمن بن معاوية الذي تخلّص بكيده عن سنن الأسنة، وظُبات السيوف، يعبر القفر، ويركب البحر، حتى دخل بلدا أعجميا. فمصّر الأمصار، وجنّد الأجناد، وأقام ملكا بعد انقطاعه بحسن تدبيره وشدة عزمه. إن معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذللا له صعبه. وعبد الملك ببيعة تقدمت له. وأمير المؤمنين بطلب عترته، واجتماع شيعته. وعبد الرحمن منفردا بنفسه، مؤيدا برأيه، مستصحبا عزمه”.

ولم يكن هذا الوصف بأقل مما وصف به أبو حيان الأندلسي الأمير عبد الرحمن الداخل عندما قال: “كان عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل راجح العقل، راسخ الحلم، واسع العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، بعيد الغور، شديد الحدّة، قليل الطمأنينة، بليغًا مفوّهًا، شاعرًا محسنًا، سمحًا سخيًا، طلق اللسان، وكان قد أُعطي هيبة مِن وليّه وعدوّه، وكان يحضر الجنائز ويصلي عليها، ويصلي بالناس الجمع والأعياد إذا كان حاضرا، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى”.

لم يكن عُمرُ عبد الرحمن طويلا، لكنه كان عريضا متسعا لأحداث ووقائع لا تزال ترويها صفحات الأيام، وألسنة التاريخ، ولم يتجاوز عمره 59 سنة، عاش منها 34 سنة ملكا في الأندلس، وست سنوات مطاردا هاربا بعد 19 سنة قضاها في رغد من العيش أميرا وابن سلسلة من الأمراء.

وفي سنة 172 للهجرة أطبق الصقر القرشي عينيه، وجمع جناحيه في كفن النهاية، ليدفن في قرطبة التي وهبته جلالها ومحبتها، وبقي في ذاكرة الأيام عنوانا وعلامة فارقة على العزيمة والإصرار.


إعلان