حاج حمد.. ابن عربي مرة أخرى في السودان

“كانت القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، والخرطوم تقرأ”، مقولة لها حظ كبير من الصدق، أما إذا تجسدت هذه المكونات الثلاث في واحد فلا شك أنه فيلسوف وعبقري. كان حاج حمد “فيلسوف السودان” كما يلقبونه، يرى أن الثقافة هي الكفيلة برأب الصدع بين الشمال والجنوب وباقي أقاليم السودان، وأن الصوفية الشفافة هي كلمة السر العابرة لحدود القبيلة، والقادرة على جمع شمل المكونات السودانية المختلفة.

وقد انتجت الجزيرة الوثائقية فيلما بعنوان “حاج حمد.. فيلسوف السودان” وهو شخصية من شخصيات السودان الثورية والمثقفة التي لم تنفصل عن قضايا الواقع ولا عن قضايا الأمة، وتركت آثارا أدبية وتربوية في المجتمع.

الفيلسوف الثائر.. امتداد ثوري عابر للحدود

ولد محمد أبو القاسم حاج حمد في كانون الأول/ديسمبر من عام 1941، في شمال السودان، لعائلة يغلب عليها تصوف الطريقة “الختمية”، وتعرّف على قيادات الثورة الإريترية منذ صغره، حينما كانوا يترددون على بيت والده، الأمر الذي جعله يعقد العزم على الالتحاق بهذه الثورة في مقتبل عمره، بل كان له السبق في تأسيس أول مكتب ارتباط لها في دمشق.

يقول حاج حمد عن نفسه: في عام 1963 قُدنا مظاهرة ضد نظام عبّود، وتأييدا لثورة الكونغو التي كان على رأسها “لوممبا”، وقد طُردت على أثرها إلى مدرسة في أم درمان، ولكنني تركتها؛ لم أستطع الدراسة هناك، واعتمدت على تثقيف نفسي ذاتيا، حتى أن الطلاب والمدرّسين في مدرسة عطبرة يعرفون أن مفتاح مكتبتها موجود دائما مع حاج حمد.

حاج حمد.. فيلسوف السودان وثائر ضد الظلم في القارة الأفريقية

ويكمل قائلا: ثم ارتبطت بالثورة الإريترية في نهايات عام 1963، وكان قوام قوات الثورة آنذاك 13 رجلا فقط، وفي تلك الفترة كان هنالك تعاون قوي بين الإمبراطور “هيلا سيلاسي” والفريق عبود، أسفر عن اعتقال عدد من قيادات الثورة، ونفي عدد آخر منهم خارج البلاد، وكنت أنا همزة الوصل بين قيادات الخارج، والقوات المسلحة للثورة في الداخل، وكنت أعمل على إدخال الأسلحة للمقاتلين، وكنت أسرق الأدوية والمستلزمات الطبية من مستودعات الجيش وأُهرّبها للثوار.

بعد استقلالها، لم تنس إريتريا أهل هذا البيت الذين ناصروهم، فكان أن منحوا حاج حمد جواز سفر دبلوماسي، وأصبح محمد أبو القاسم حاج حمد مستشارا اقتصادياً للرئيس الأريتيري، وكان ذلك في الأيام الأولى لإعلان الحكومة في أسمره.

المأزق التاريخي.. كيف وُلِد عرب السودان؟

استقر حاج حمد في لبنان منذ السبعينات، وأسس فيها المكتب العالمي للبحوث، وهناك قام بتأليف عدة كتب، كان من أهمها كتاب “السودان.. المأزق التاريخي وآفاق المستقبل”، وتحديدا في طبعته الثانية سنة 1996، وأراد أن يعيد من خلاله دراسة الظاهرة الاجتماعية السودانية، ولم يكن الكتاب سردا تاريخيا بقدر ما هو تحليل للتاريخ، وبأن جدلية التاريخ السوداني تتلخص في تجاذباته المتوسطية من جهة، وصبغته العربية والإسلامية، ثم عمقه الأفريقي من جهة أخرى.

كتاب “السودان.. المأزق التاريخي وآفاق المستقبل”، أراد الحاج حمد أن يعيد من خلاله دراسة الظاهرة الاجتماعية السودانية

ويرى حاج حمد أن الوجود العربي في السودان لم يكن نتيجة فتح أو حد سيف بقدر ما هو امتداد طبيعي للوجود العربي في مصر وجزيرة العرب، وبالتالي فهو تدريجي بطيء وليس طارئا متفاجئا، وهو إلى ذلك لم يكن في قمة أوج العرب، بل كان على سفوح أفولهم، وبالتالي لم تصطبغ الأمة السودانية باللون العربي كأمة، وإنما اقتصر وجود العرب على شكل قبائل منفصلة في مجتمع متعدد.

يستثني حاج حمد من ذلك الطرق الصوفية، فهو يرى أنها وحدها العابرة للمكونات العرقية والقبلية السودانية، وهي القادرة على تكوين النموذج الإسلامي الجامع، ويرى أن النموذج الإسلامي في السودان كان فريدا في نوعه، فلم يكن إسلاما شرقيا، ولم يكن مستندا إلى مدرسة، ولكنه كان دينا روحانيا مستلهَما من الروحانية الأفريقية، ولذلك فإن الطرق الصوفية قد نمت وترعرعت في هذه البيئة الروحية الخصبة.

عند ضريح ابن عربي.. الصوفي الزاهد

بعض رفاق الحاج حمد يصفه بأنه كان صوفيا بامتياز، فهو متسامح مع نفسه وغيره، زاهد في متاع الدنيا ومادياتها. يقول عن نفسه في إحدى الندوات التلفزيونية عام 2000: كتاب “السودان” كلفني حوالي عشرين ألف دولار، وقد كنت قبل ذلك بين خيارين: أحدهما أن أستخدم هذا المبلغ في شراء منزل أو قطعة أرض، والثاني أن أُخرج هذا الكتاب إلى النور وأقدّمه لكم كضريبة عن غُربتي خارج السودان، فاخترت الثانية، وعسى أن تقبلوها.

يشبّه الحاج حمد انتشار دعوته في شمال السودان بالثورة المهدية

يتكلم حاج حمد عن الثورة المهدية، ويقول إن المهدي تلقى علومه الدينية والصوفية في خلوات شمال السودان، ثم رحل إلى غرب السودان وهناك أسس فكرته الثورية الجهادية. ذلك أن دعوة مثل عودة المهدي المنتظر، لم يكن متوقعا لها أن تلقى ذلك القبول في بيئة متصلة بمدارس الأثر، ويسيطر عليها “الإسلام الرسمي” الذي أسسه العثمانيون مثل مناطق شمال السودان، وعلى العكس فهي مؤهلة لكل القبول في بيئة أفريقية مثل غرب السودان.

كانت الصوفية عميقة متجذرة في قلب حاج حمد، يذكر أحد أصدقائه أنهم عندما زاروا دمشق لاجتماع سياسي هام، أبى حاج حمد أن يقوم بأي نشاط قبل زيارة ضريح ابن عربي، وهناك جثا وبكى بكاء مُرّا لأكثر من ساعتين، وكان يناجي القبر ويبثّه ما يجد، ولم ينتبه من خلوته تلك إلا بعد أن سحبه أصحابه بعيدا عن الضريح وذكّروه بجدول أعمالهم المزدحم.

القراءتان.. منبع بعث العالمية الإسلامية

بلْوَر حاج حمد عصارة فكره عن إسلامية المعرفة، وضمّنه في كتابه الهام “العالمية الإسلامية الثانية”، وفيه تناول الثالوث الوجودي الشهير: الغيب والإنسان والطبيعة؛ فالإنسان بصفته ثائرا على نفسه، والطبيعة بصفتها ثائرة على الإنسان، والغيب الذي يوازن بين هذه المكونات الثلاثة.

الحاج حمد أبو القاسم يتحدث عن نظرية القراءتين التي طرحها في كتابه “العالمية الإسلامية الثانية”

وقد كان هذا الكتاب جريئا في إجاباته على بعض الأسئلة الحرجة، فقد طرح فيه مفهوم الجمع بين القراءتين؛ القراءة بالله، فالله هو الذي يصل بك إلى الغيب وسائر المعارف التي لا تُدرك بالحواس، ثم القراءة بالقلم وهي قراءة الطبيعة. ويكون الجمع بين القراءتين هو منبع بعْث العالمية الإسلامية مرة أخرى.

كنفدرالية القرن الأفريقي.. إرث ضارب في أعماق التاريخ

يركز الفيلسوف حاج حمد على الإشكالية الاجتماعية في السودان، ويشخّص حالة الانفصام المجتمعي التي مردها إلى تجاذبات الوجه المتوسطي للسودان، مع عمقه الأفريقي، ويطرح مفهوم “الرافعة الحضارية” كحَلّ لحالة الانفصام هذه، حيث يرفع المستويات الثقافية في الأقاليم المختلفة لتصير على مستوى ثقافة المركز، وساعتها يمكن أن نحلم بسودان شامل وموحد، وليس أقاليم يطمح كل منها إلى الانفصال والاستقلال. وعندما تحدث عن المركز لم يكن قصده المركز الدكتاتوري حيث تتركز السلطات والثروات، بقدر ما هو المركز الثقافي الذي يأخذ على عاتقه رفع كل الأقاليم لتحاذيه في العلم والمعرفة والفهم.

في محاضرة “السودان.. المأزق التاريخي” يتحدث أبو القاسم عن ضرورة إنشاء كنفدرالية القرن الأفريقي

كتاب “السودان والمأزق التاريخي” كان قد تنبأ بانفصال جنوب السودان وهرولته نحو العمق الكيني والأثيوبي، حيث عجز الشمال عن استقطابه نحو السودان الموحد، وكان هذا قبل الانفصال الفعلي في 2011، وحذّر كذلك من أن تحذو أقاليم أخرى حذو الجنوب، ولذلك فقد طرح فكرته الجريئة في توحيد كل القرن الأفريقي في شكل كونفدرالية متكاملة اقتصاديا وعسكريا وحضاريا، يعضدها إرث ضارب في أعماق التاريخ.